.

   تحريم الأنفس المعصومة: رابعًا:  عظم جرم قتل النفس بغير حق:      الصفحة السابقة        الصفحة التاليـة      (عناصر البحث)

 

رابعًا: عظم جرم قتل النفس بغير حق:

جاءت نصوص الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على النفس وعدّ ذلك من كبائر الذنوب؛ إذ ليس بعد الإشراك بالله ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة.

وقد توعّد الله سبحانه قاتلَ النفس بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.

1- قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـٰدَكُمْ مّنْ إمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].

قال البغوي: "حرّم الله تعالى قتلَ المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم"[1].

وقال القرطبي: "وهذه الآية نهيٌ عن قتل النفس المحرّمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها"[2].

2- وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33].

3- وقال تعالى: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً P يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68، 69].

4- وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِى ٱلأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة 32].

قال الطبري رحمه الله بعد أن حكى الخلاف في تفسير الآية: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلَتْها فاستحقّت القوَد بها والقتلَ قصاصا, أو بغير فساد في الأرض بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها, فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من الله جلّ ثناؤه, كما أوعده رَبُّه بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}. وأما قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فأولى التأويلات به قول من قال: مَنْ حرّم قتل مَنْ حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه فلم يتقدّم على قتله فقد حيي الناس منه بسلامتهم منه, وذلك إحياؤه إياها, وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربّه, إذ قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ} فكان معنى الكافر في قوله: (أنا أحيي) أنا أترك من قدرتُ على قتله, وفي قوله: (وأميت) قتله من قتله, فكذلك ينعقد الإحياء في قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} من سلِم الناس من قتله إياهم إلا فيما أذن الله في قتله منهم فكأنما أحيا الناس جميعا"[3].

5- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور))[4].

6- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما))[5].

قال ابن حجر: "قوله: ((من دِينه)) كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين، وفي رواية الكشميهني: ((من ذَنبه)). فمفهوم الأول: أن يضيق عليه دينه، ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمداً بما يتوعّد به الكافر. ومفهوم الثاني: أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه، ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول"[6].

7- وعن عبد الله بن مسعود: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء))[7].

قال النووي: "فيه تغليظ أمر الدماء, وأنها أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة, وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها, وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: ((أول ما يحاسب به العبد صلاته)) لأنّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى, وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد, والله أعلم بالصواب"[8].

وقال ابن حجر: "وفي الحديث عظم أمر الدّم, فإن البداءة إنما تكون بالأهمّ, والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة, وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك"[9].

8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا ربّ, هذا قتلني, حتى يدنيه من العرش))[10].

قال المباركفوري: "قوله: ((يجيء المقتول بالقاتل)) الباء للتعدية, أي: يحضره ويأتي به, ((ناصيته)) أي: شعر مقدّم رأس القاتل, ((ورأسه)) أي: بقيته بيده, أي: بيد المقتول, ((وأوداجه)) هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودَج بالتحريك, ((تشخب)) بضم الخاء المعجمة وبفتحها أي: تسيل دما, ((يقول: يا رب، قتلني هذا)) أي: ويكرّره, ((حتى يدنيه من العرش)) من الإدناء, أي: يقرب المقتولُ القاتلَ من العرش, وكأنه كناية عن استقصاء المقتول في طلب ثأره, وعن المبالغة في إرضاء الله إياه بعدله"[11].

9- وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكلّ جبار, وبمن جعل مع الله إلها آخر, وبمن قتل نفسا بغير نفس, فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنم))[12].

10- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه)[13].

قال ابن حجر: "قوله: (إن من ورطات) جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك، يقال: وقع فلان في ورطة أي: في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله: (التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها)، (سفك الدم) أي: إراقته، والمراد به القتل بأيّ صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبَّر به"[14].

11- وعن إبراهيم النخعي قال: "من مات من أهل الإسلام ولم يصب دماً فارجُ له"[15].


[1] معالم التنزيل (3/203).

[2] الجامع لأحكام القرآن (7/133).

[3] جامع البيان (6/202) باختصار.

[4] أخرجه البخاري في الديات (6871) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (88).

[5] أخرجه البخاري في الديات (6862).

[6] فتح الباري (12/195).

[7] أخرجه البخاري في الديات, باب قوله تعالى: ((ومن يقتل مؤمنا متعمدا)) (6357), ومسلم في القسامة والمحاربين (3178).

[8] شرح صحيح مسلم (11/167).

[9] فتح الباري (11/397).

[10] أخرجه الإمام أحمد (2551), والنسائي في تحريم الدم, باب: تعظيم الدم (3934), والترمذي في تفسير القرآن, باب: ومن سورة النساء (2955) وحسنه, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2697).

[11] تحفة الأحوذي (8/305) باختصار.

[12] أخرجه الإمام أحمد (11372) واللفظ له, وابن أبي شيبة (7/51), والطبراني في الأوسط (4/203), وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2699).

[13] أخرجه البخاري في الديات (6863).

[14] فتح الباري (12/196).

[15] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب: من قتل نفسه ومن قتل نفساً (10/462).

 

.