.

   تحريم الأنفس المعصومة:  ثالثًا : مقصد حفظ النفس:     الصفحة السابقة          الصفحة التالية          (عناصر البحث)

 

ثالثًا: مقصد حفظ النفس:

أرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم بدينٍ كلُّه رحمة وخير وسعادة لمن اعتنقه وتمسّك به، قال الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57، 58]، وتتجلّى رحمة الإسلام في مقاصده العظيمة وقواعده الجليلة ونُظمه الفريدة وأخلاقه النبيلة، فهو رحمة في السلم والحرب، ورحمة في الشدة والرخاء، ورحمة في الوسع والضيق، ورحمة في الإثابة والعقوبة، ورحمة في الحكم والتنفيذ، ورحمة في كل الأحوال.

ولتحقيق هذه الرحمة جاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج واضطراب وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.

وهذه الضروريات الخمس هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأعظمها بعد مقصد حفظ الدين مقصدُ حفظ النفس، فقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يحقّق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها.

والمقصود بالأنفس التي عنيت الشريعة بحفظها الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان[1]، وأما غير ذلك كنفس المحارب فليست مما عنيت الشريعة بحفظه، لكون عدائه للإسلام ومحاربته له أعظم في ميزان الشريعة من إزهاق نفسه، بل وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان ومع ذلك يجيز الشرع للحاكم إزهاقها بالقصاص أو الرجم أو التعزير، ولا يقال: هذا مناف لمقصد حفظ النفس؛ لكون مصلحة حفظها والحالة هذه عورضت بمصلحة أعظم، فأخِذ بأعظم المصلحتين.

وقد وضعت الشريعة الإسلامية تدابير عديدة كفيلة بإذن الله بحفظ النفس من التلف والتعدي عليها, بل سدّت الطرقَ المفضية إلى إزهاقها أو إتلافها أو الاعتداء عليها, وذلك

بسدّ الذرائع المؤدّية إلى القتل.

فممّا جاءت به الشريعة لتحقيق هذا المقصد:

1- تحريم الانتحار والوعيد الشديد لمن قتل نفسه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن شرب سُمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا))[2].

قال السندي: "((تردى)) أي: سقط، ((يتردى)) أي: من جبال النار إلى أوديتها، ((خالدا مخلدا)) ظاهره يوافق قوله تعالى: {وَمَن يَّقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية لعموم المؤمن نفسَ القاتل أيضا, لكن قال الترمذي: قد جاءت الرواية بلا ذكر خالدا مخلّدا أبدا, وهي أصح؛ لما ثبت من خروج أهل التوحيد من النار, قلت: إن صحّ فهو محمول على من يستحلّ ذلك, أو على أنه يستحقّ ذلك الجزاء, وقيل: هو محمول على الامتداد وطول المكث, كما ذكروا في الآية والله تعالى أعلم. ((ومن تحسى)) آخره ألف, أي: شرب وتجرّع, والسمّ بفتح السين وضمّها وقيل: مثلّثة السين: دواء قاتل يطرح في طعام أو ماء, فينبغي أن يحمل ((تحسى)) على معنى أدخل في باطنه ليعمّ الأكل والشرب جميعا, ((يجأ)) بهمزة في آخره, مضارع: وجأته بالسكين إذا ضربته بها"[3].

2- النهي عن القتال في الفتنة:

عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل, فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابنَ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني عليًّا ـ قال: فقال لي: يا أحنف, ارجِع, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))، قال: فقلت أو قيل: يا رسول الله, هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه قد أراد قتل صاحبه))[4].

قال النووي: "معنى ((تواجها)): ضرب كلّ واحد وجه صاحبه, أي: ذاته وجملته, وأمّا كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له, ويكون قتالهما عصبية ونحوها, ثم كونه في النار معناه: مستحقّ لها, وقد يجازى بذلك, وقد يعفو الله تعالى عنه, هذا مذهب أهل الحق"[5].

3- النهي عن الإشارة بالسلاح ونحوه من حديدة وغيرها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه, وإن كان أخاه لأبيه وأمه))[6].

قال النووي: "فيه تأكيد حرمة المسلم, والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد, سواء من يتّهم فيه ومن لا يتّهم, وسواء كان هذا هزلا ولعبا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال؛ ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرّح به في الرواية الأخرى, ولعن الملائكة له يدلّ على أنه حرام"[7].

4- النهي عن السبّ والشتم المفضي للعداوة ثم التقاتل:

قال تعالى: {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا} [الإسراء53].

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل ـ يا محمد ـ لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن؛ من المحاورة والمخاطبة, وقوله: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا {يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يقول: يفسد بينهم, يهيج بينهم الشر، {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا} يقول: إن الشيطان كان لآدم وذريته عدوّا قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة"[8].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))[9].

قال المناوي: "((سِباب)) بكسر السين والتخفيف ((المسلم)) أي: سبّه وشتمه, يعني التكلّم في عرضه بما يعيبه, ((فسوق)) أي: خروج عن طاعة الله ورسوله, ولفظه يقتضي كونه من اثنين, قال النووي: فيحرم سبّ المسلم بغير سبب شرعي, وقتاله أي: محاربته لأجل الإسلام كفر حقيقة, أو ذكره للتهديد وتعظيم الوعيد, أو المراد الكفر اللغوي وهو الجحد, أو هضم أخوة الإيمان"[10].


[1] انظر: روضة الطالبين (9/148).

[2] أخرجه البخاري في الطب, باب: شرب السم والدواء (5333), ومسلم في الإيمان (158) واللفظ له.

[3] حاشية السندي (4/67) باختصار.

[4] أخرجه البخاري في الإيمان, باب: {وإن طائفتان من المؤمنين} (30), ومسلم في الفتن وأشراط الساعة (5139) واللفظ له.

[5] شرح صحيح مسلم (18/11).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (158).

[7] شرح صحيح مسلم (16/170).

[8] جامع البيان (15/102) باختصار.

[9] أخرجه البخاري في الإيمان, باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله (46), ومسلم في الإيمان (97) .

[10] فيض القدير (4/84) باختصار.

 

.