الملف العلمي للمولد النبوي

.

  الشباب بين الاتباع والابتداع: رابعاً: من أسباب الوقوع في الابتداع:   الصفحة السابقة    الصفحة التالية     (الصفحة الرئيسة)

 

رابعاً: من أسباب الوقوع في الابتداع:

1- الخلل في منهج التلقي:

أ- قلّة العلم بالشرع المُنزّل، والاعتماد على غيره:

ومن صوره:

· الجهل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وترك التفقه فيه:

"ثم إن من عجيب الأمر أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلّما وجد أثراً فيه إجمال نزّله على رأيه"[1].

"وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لتبيّنوا أنه الجامع لكل خير"[2].

· الاعتماد على الحكايات والرؤى والمنامات:

"وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة"[3].

· الجهل بآثار السلف وأقوالهم:

"عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه ولا وجدوه في كتاب من الكتب التي يتداولونها، لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية... ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالاً مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودلّ عليه الكتاب والسنة لا يذكره، لأنه لا يعرفه"[4].

· الاعتماد في تفسير القرآن على العقل واللغة دون الحديث وآثار السلف:

"ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسّرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأوّلوه من اللغة. ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم"[5].

· الأخذ بالأحاديث والآثار المنقولة الواهية والمكذوبة:

"وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقلٍ لا يعرف له قائل أصلاً، لا ثقة ولا معتمداً، وأهون شيء عندهم الكذب المختلق، وأعلم من فيهم لا يرجع فيما نقله على عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين"[6].

ب- ترك تلقي العلم الشرعي عن العلماء وترك مجالستهم:

قال أبو معاذ البلخي خلف بن سليمان: "كان جهم على معبر ترمذ، وكان رجلاً كوفيّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم، كان تكلم كلام المتكلمين وكلّمه السُّمنيّة"[7].

ج- التلقي عن أهل البدع ومخالطتهم والجلوس معهم:

يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [الأنعام:68].

"وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمّح بمجالسة المبتدعة الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة... ومن عرف هذه الشريعة المطهّرة حقّ معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلّة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو ـ والله ـ من أبطل الباطل وأنكر المنكر"[8].

وقال أبو قلابة الجرميّ التابعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لُبّس عليهم"[9].

وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة: "كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم"[10].

وقال أبو الوفاء بن عقيل: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً"، فعلّق الذهبي قائلاً: "قلت: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجاسر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة"[11].

وعن أبي أميّة اللخمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشراط الساعة ثلاثاً، واحدتهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر))[12].

قال ابن المبارك: "الأصاغر أهل البدع"[13].

2- الخلل في منهج الاستدلال:

أ- عدم التسليم للنصوص الشرعية وعدم الانقياد لها:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم).

قال أبو بكر بن أبي داود: "أهل الرأي هم أهل البدع"[14].

ومن صور عدم التسليم:

· ردّ الأحاديث التي لا توافق بدعهم وأهواءهم:

·  بالقدح في رواتها الثقات العدول.

·  أو بنفي حجية خبر الآحاد.

·  أو بتحريف الأدلة عن مواضعها وصرفها عن ظواهرها بتأويلات فاسدة[15].

·  اتباع المتشابه من الأدلة وترك المحكم [16] .

·  معارضة النصوص الشرعية بالأهواء (الكشف، الذوق، الرأي، المنامات، المصلحة...)[17].

ب- الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها:

قال وكيع بن الجرّاح: "أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم"[18].

ج- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بالعادة والعُرف:

" فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو مَنْ قيّدته العامة أو قوم مترئّسون بالجهالة... والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس من طريقة أهل العلم، ولكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين"[19].

د- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بعمل بعض ذوي العلم والفضل بها:

"ومِنْ هنا يغلظ كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبيّ، وهذا غلط"[20].

هـ- الاحتجاج باختلاف العلماء[21].

و- الاحتجاج بحصول منفعة هذه البدعة بالتجربة[22].

3- الجهل بكلام العرب وأساليبهم في الخطاب:

قال الإمام الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره لأنه لا يعلم مِنْ إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جَهِل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرّقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها"[23].

قال الشاطبي: "ومنها تخرّصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُرُوّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنه من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك"[24].

4- اتباع الهوى:

قال وكيع بن الجراح: "من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلب الحديث ليقوّي هواه فهو صاحب بدعة"[25].

قال البخاري: "يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي رأيه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت الحديث، ولا يعلل بعلل لا تصح ليقوّي هواه"[26].

"وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ٱلْهُدَىٰ} [النجم:23]"[27].

"وكان السلف يسمّون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية، يسمونهم أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهلٌ لا علم، وهوى لا دين، فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله"[28].

"الشرع قد دلّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم، ولذلك تجدهم يتأوّلون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم".

"والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرّح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه، وإذا اتبع هواه كان مذموماً وآثماً، والأدلة عليه أيضاً كثيرة:

كقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ} [القصص:50].

وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ} [ص:26].

وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]"[29].

5- الغلو والتعصب:

قال الشاطبي: "والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه، كقوله: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:23]".

"وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء، فيراه يعمل عملاً فيظنه عبادة فيقتدي به كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً، ويحتج به على من يرشده، فيقول: كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء أهل الظاهر، فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسُن ظنه فيه أخطأ أو أصاب، كالذين قلّدوا آباءهم سواء"[30].

"ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوّف من يجعل شيخه كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه"[31].


[1] مجموع الفتاوى (4/82-83).

[2] درء التعارض (7/381-382).

[3] الاعتصام للشاطبي (1/331)، وانظر: مجموع الفتاوى (19/5).

[4] مجموع الفتاوى (12/309).

[5] مجموع الفتاوى (7/119).

[6] مجموع الفتاوى (27/479). وانظر: الاعتصام للشاطبي (1/287-293).

[7] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (2/423).

[8] فتح القدير للشوكاني (2/128).

[9] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1/137)، والدارمي في السنن (1/90)، والآجري في الشريعة (1/435-436) وغيرهم بإسناد صحيح.

[10] الآداب الشرعية لابن مفلح (1/251).

[11] سير أعلام النبلاء (19/447).

[12] أخرجه ابن المبارك في الزهد (61)، والطبراني في الكبير (22/361-362) وغيرهما، وحسّنه الحافظ عبد الغني المقدسي كما في السلسلة الصحيحة (695).

[13] ذم الكلام وأهله للهروي (5/76).

[14] جامع بيان العلم وفضله (2/1042)، وأثر عمر هذا مروي من وجوهٍ كثيرة يثبت بها.

[15] انظر: الاعتصام (1/294-301)، ومجموع الفتاوى (17/415).

[16] انظر الإبانة لابن بطة (2/501-الإيمان)، وإعلام الموقعين (2/293-306).

[17] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/687)، ودرء التعارض (5/245)، والنبوات (1/420-421).

[18] رواه الدارقطني في السنن (1/26)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/18-19).

[19] اقتضاء الصراط المستقيم (2/587-588، 585 –586)، وانظر: الحوادث والبدع للطرطوشي (ص69)، والباعث لأبي شامة (ص84).

[20] اقتضاء الصراط المستقيم (2/700-701).

[21] انظر: مجموع الفتاوى (22/366-367).

[22] اقتضاء الصراط المستقيم (2/695-700)، وسنن أبي داود (3883).

[23] الرسالة (ص50 فقرة 169).

[24] الاعتصام (1/301).

[25] رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص105).

[26] رفع اليدين في الصلاة (ص105).

[27] مجموع الفتاوى (3/384).

[28] إغاثة اللهفان (2/170).

[29] الاعتصام (1/190-191).

[30] الاعتصام (2/688-691).

[31] مجموع الفتاوى (19/272-273).

 

.