الملف العلمي للمولد النبوي

.

   المولد النبوي: خامساً:  شبهات المحتفلين والرد عليها:                                    الصفحة السابقة              الصفحة التالية

 

خامساً: شبهات المحتفلين والرد عليها:

الشبهة الأولى:

الاحتفال بهذا اليوم تعبير عن الفرح بمولده صلى الله عليه وسلم، وقد انتفع به الكافر، جاء في البخاري أنّه يخفف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

يقول محمد بن ناصر الدين الدمشقي:

إذا كان هذا كافرًا جــاء ذمـه       بتبـت يداه في الجحيم مخلدًا

أتى أنّه في يـوم الاثنـين دائـمًا         يخفـف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره          بأحمد مسرورًا ومات موحدًا

مناقشة هذه الشبهة:

هذا الأثر يروى عن عروة مرسلاً كما في صحيح البخاري: قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهبٍ أعتقها فأرضعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُرِيه بعض أهله بشرِّ حِيبةٍ، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة"([1]).

والمرسل ضعيف لا تقوم به حجة.

وقد استدل بهذا الخبر فيمن استدل به ابن الجزري إمام القرَّاء المشهور في كتابه (عرف التعريف بالمولد الشريف)، نقل السيوطي كلامه عقب ذكره لهذا الخبر حيث قال: "فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جُوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم؟! لعمري إنّما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنّات النعيم" ولم يعقّب عليه السيوطي بشيء.

وقال صاحب رسالة (حول الاحتفال): "فقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهبٍ كلَّ يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لماّ بشرته بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم" فأوهم بكلامه هذا أنّ الخبر صحيح لوروده في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وأوهم كذلك أنّ في الخبر الذي ساقه البخاري أنّه يخفف عن أبي لهب كلّ يوم اثنين، والذي يرجع إلى الصحيح لا يجد هذا الكلام.

وبعد بيان سقوط هذا الخبر من حيث عدم ثبوته؛ لا يبقى بعد ذلك أيُّ داعٍ إلى مناقشة المستدلين به، إلاّ أنّه على فرض كونه متصلاً لا يصح الاحتجاج به لأمور عدة:

أولها: أنّ هذا منام، والمنامات لا حجّة فيها، فكيف تشرع العبادات عن طريقها، قال ابن حجر: "النائم لو رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء، هل يجب عليه امتثاله ولا بد أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر؟ فالثاني هو المعتمد" هذا في رؤيا مسلم للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف في رؤيا كافر لكافر([2]).

الثاني: أنّ فيه على فرض اتصاله أنّ الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة؛ لكنه لا يقوى على مخالفة ظاهر قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان:23]، ولا على تخصيصه، والعمل لا يثاب عليه إلا إن كان بقصد القربة، وهي لا تحصل من الكافر، قال القاضي عياض: "انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذاباً من بعض"([3]).

الثالث: أنّ ما فيه من إعتاق أبي لهب لثويبة قبل إرضاعها للنبي صلى الله عليه وسلم مخالف لما عند أهل السير من أنّ إعتاق أبي لهب إيّاها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل، أشار إلى ذلك ابن حجر في فتح الباري([4])، وأوضحه في الإصابة ([5]).

وقد أورد ابن سعد في طبقاته مرسل عروة هذا وعقَّب عليه قائلاً: "وأخبرنا محمد بن عمر عن غير واحد من أهل العلم قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي يؤمئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة، حتى جاءه خبرها أنّها توفيت سنة سبع مرجعه من خيبر، فقال: ((ما فعل ابنها مسروح؟)) فقيل: مات قبلها"([6]).

قال ابن عبد البر في السيرة النبوية بعد أن ذكر إرضاع ثويبة للرسول صلى الله عليه وسلم: "وأعتقها أبو لهب بعدما هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة"([7]).

وقال ابن الجوزي: "وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة، فيكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة، وهي يومئذ أمة، ثم أعتقها أبو لهب".

وممّا سبق يتبين أنّه لم يثبت من طريق صحيح أنّ أبا لهب فرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن ثويبة بشرته بولادته، ولا أنّه أعتق ثويبة من أجل بشارتها إياه بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنه يخفف عنه كل يوم اثنين بسبب ذلك، كلّ ذلك لم يثبت، ومن ادَّعى شيئًا من ذلك فعليه إقامة الدليل على ما ادَّعاه، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً.

الشبهة الثانية:

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم مولده، ففي صحيح مسلم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين، فقال: ((فيه ولدت، وفيه أنزل علي))([8]).

وكان يعبّر عن هذا التعظيم بالصوم، وهذا فيه معنى الاحتفال.

مناقشة هذه الشبهة:

يجاب في هذه ا لشبهة بأمور:

1.   أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ـ إن صح أنّه كذلك ـ وإنّما صام الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات، وبناء على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكًا على الشارع، وتصحيحًا لعمله.

2.   أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص يوم الاثنين بالصيام، بل كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس، وقال صلى الله عليه وسلم:  ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم))([9])، وكذلك لم يحصر النبي صلى الله عليه وسلم مزية يوم الاثنين في أنه ولد فيه، بل ذكر مزية أخرى، وهي أن الأعمال تعرض فيه، فالاستدلال باستحباب صوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال بالمولد في غاية التكلف والبعد.

3.   أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أصحاب الموالد، من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب، أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيها صلى الله عليه وسلم ويسعها ما وسعه؟!

الشبهة الثالثة:

الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس:58]، فالله أمرنا أن نفرح بالرحمة، وهو صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ} [الأنبياء:107].

مناقشة هذه الشبهة:

الرحمة الواردة في هذه الآية للسلف في تفسيرها أقوال عدَّة، فمما جاء في تفسيرها وقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (بفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله)، وقول هلال بن يساف: (أما فضله فالإسلام، وأما رحمته: فالقرآن)([10]).

ولم يفهم أحد من السلف أن من مظاهر هذا الفرح ومن مقتضيات امتثال الأمر به إقامة احتفال له صلى الله عليه وسلم، ومدّ موائد الطعام والشراب، والتوسعة على الناس بهما.

وما الرحمة المشار إليها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ} إلا القرآن والسنة اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم.

فالفرح به صلى الله عليه وسلم يكون باتباع هديه، وامتثال أمره، دعوة وعملاً.

قال ابن كثير في تفسير الآية: "يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلّهم، فمن قَبِل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سَعِدَ في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة"([11]).

أمّا الاستدلال بالآية على مشروعية الاحتفال بالمولد فهذا بلا شك من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، وهو ما نصّ الشاطبيُّ على عدم مشروعيته؛ وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العلم بالنص عليه لا يقبل ممن بعدهم دلالة النص عليه.

قال ابن عبد الهادي: "ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو في سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه، ولا بيَّنوه للأمة، فإنّ هذا يتضمن أنّهم جهلوا الحق في هذا، وضلُّوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه؟"([12]).

ولا شك أن هذا المسلك الذي سلكه هؤلاء المستدلون بالآية على مشروعية إقامة الحفلات والولائم فرحًا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مسلكُ أهل البدع والضلالة، قال الشاطبي: "وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يُحمِّلونهما مذاهبهم، ويعبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء، ولذلك أمثلة كثيرة، كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم"([13]).

وقال في موضع آخر: "كل من اتبع المتشابهات أو حرَّف المناطات أو حمل الآيات ما لا تحتمله عند السلف الصالح أو تمسك بالأحاديث الواهيّة أو أخذ الأدلة ببادئ الرأي ليستدل على كل فعلٍ أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلاً، والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف"([14]).

الشبهة الرابعة:

الاستدلال على مشروعية المولد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى، وأنّ في تكرر زمنها فرصة لتعظيمها وتذكرها.

مناقشة هذه الشبهة:

لقد أورد هذا الاستدلال ابن حجر الهيثمي ولم يسبق إليه، كما ينقل عنه السيوطي، ثم رددها من بعدهما المتأخرون في هذا الزمن، وغفلوا جميعًا أنهم بهذا التقرير يفتحون بابًا للأمة أن تستحدث أعيادًا لا حصر لها، فاحتفال وعيد بمناسبة الهجرة النبوية، وآخر للبعثة النبوية، وثالث لذكرى الإسراء والمعراج، ورابع لانتصار المسلمين في بدر الكبرى، وخامس لفتح مكة وهكذا، فتغرق الأمة في أعياد مبتدعة.

إنّ اعتبار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء دليلاً على مشروعية المولد أمرٌ مخالفٌ لما أجمع عليه السلف من ناحية الفهم، ومن ناحية العمل، فهم لم يفهموا من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء أنّه أراد ربط الزمان بالحوادث الدينية، ولم يتجاوزا فيه الصوم المأمور به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى.

ثم إن تخريج بدعة المولد على صيام عاشوراء إنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء والترغيب فيه وسكوته عن الاحتفال بيوم مولده كافٍ في إبطال مشروعيته بهذا الدليل؛ إذ لو كان في ذلك شيء من الفضل لبيَّن ذلك لأمته، فهو صلى الله عليه وسلم لم يترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولم يترك شرًا إلا حذَّر الأمة منه.

إن وقوف المؤمن في صيام يوم عاشوراء عند صيامه وصيام يومٍ قبله أو بعده مع عدم إحداث أي شيء آخر معه هو مقتضى الاتباع الكامل للنصوص الشرعية.

 الشبهة الخامسة:

الاحتفال بالمولد لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم فهو بدعة، ولكنّها بدعة حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعية، لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبوي.

مناقشة هذه الشبهة:

إنّ قيام المقتضي والموجب لعبادةٍ ما من العبادات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانعدام المانع منها مع ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل على بدعية فعلها.

ولا تكون البدعة حسنة أبدًا، وإن اندرجت تحت الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، فالصحابة رضوان الله عليهم أنكروا على مروان بن الحكم عندما أحدث للعيد أذانًا، مع أنه مندرج تحت قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.

بل البدعة إن ثبتت أنها بدعة في الدين لا تكون حسنة أبدًا، للعموم المستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة))([15])، قال شيخ الإسلام: "وما سمّي بدعة وثبت حُسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم، إمّا أن يقال: ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمَّى بدعة من حيث اللغة كما قال عمر: (نعمت البدعة هذه) ([16])، وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة"، وقال: "ومعلوم أنّ كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا أنّه بدعة حسنة"([17]).

قال ابن رجب: "وأمّا ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لمّا جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك، فقال: (نعمت البدعة هذه)"([18]).

الشبهة السادسة:

أن المولد يبعث على كثرة الصلاة والسلام عليه المطلوبين بقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وما كان يبعث على المطلوب شرعًا فهو مطلوب شرعًا.

هذه الشبهة:

الذي يبعث حقًا على كثرة الصلاة والسلام المطلوبين بنص الآية، هو دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها عمليًا، مما يجعل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيًا دائمًا، أما إقامة المولد مرَّة كل عام؛ فهي مدعاة إلى هجر سنته، وترك الصلاة عليه إلى أن يحين موعدها من العام المقبل.

وواقع أصحاب الموالد خير شاهد على ذلك، فهم أبعد الناس عن تطبيق سنته في حياتهم، ويرون أنهم متى أقاموا الاحتفال في هذه الليلة فقد قاموا بما يجب عليهم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن غيرهم ممن لا يقيمها مقصر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أشبه ما يكون بالأعراب الجفاة. والواقع أن العكس هو الصحيح، فأهل الموالد هم أكثر الناس هجرًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتركًا لهديها، وجهلوا أن الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو فرح بما جاء به، وذلك لا يكون إلا بالاتباع، وبه يظهر أثر الحب الحقيقي، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].

قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحَب. قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنّهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية"([19]).

وأما عمل المولد الذي يقرأ فيه ما يبعث على اعتقاد أنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقاليد السموات والأرض، وأن له حق الإقطاع في الجنة، وأن من جوده الدنيا وضرّتها، ومن علومه علم اللوح والقلم؛ فهذا ولا شك يبعث على وقوعهم في الشرك الذي لا يُغفر لصاحبه أبدًا، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48 وما كان يبعث على المنهي عنه شرعًا فهو منهيٌّ عنه شرعًا.

الشبهة السابعة:

يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة وعد مزاياه" ((وفيه ولد آدم)) تشريف الزمان الذي ثبت أنّه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام، فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين.

مناقشة هذه الشبهة:

فضل يوم الجمعة ثابت، وهو عيد من أعياد المسلمين، وآدم خُلق يوم الجمعة ولم يولد فيه، جاء في حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم))([20]).

إن الشريعة التي عظمت يوم الجمعة هي نفسها التي أغفلت تعظيم يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منها كل ذلك عن عمد وقصد، ولم يكن عن سهو ونسيان، فقياس ما عظمته الشريعة وشرعت فيه ما شرعت على ما لم تعظمه الشريعة ولم تشرع فيه شيئًا من العبادات أمرٌ بلغ من القبح غايته، ومن الفساد منتهاه، ومن البطلان أعلى درجاته.

فأيُّ استدراك على الشريعة بعد هذا الاستدراك، قال تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]، بل إن النهي عن تخصيص يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم بصيام أو قيام هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ((لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم))، فكيف يؤخذ من النهي الاستحباب.

الشبهة الثامنة:

أن المولد استحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد، وجرى به العمل في كلِّ صقعٍ، فهو مطلوب شرعًا للقاعدة المأخوذة من قول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو قبيح عند الله).

مناقشة هذه الشبهة:

إذا كان المراد باستحسان العلماء إجماعهم فنعم؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا تخلو الأمة من قائم لله بحجته.

ولكن من أين أن الأمّة أجمعت على استحسان بدعة المولد؟! بل الخلاف ما زال قائمًا إلى يومنا هذا ولا يزال، من أول يوم أُحدثت فيه هذه البدعة على يد حكام بني عبيد الباطنيين، واستحسنها من بعدهم في القرن السابع سلطان إربل كما تقدم تفصيله، وساعد على انتشار هذه البدعة أنّ القائمين عليها كانوا هم الحكام الذين بيدهم الحل والعقد.

وانتشار البدعة وكثرة من يعملون بها في كثير من أصقاع العالم الإسلام لا يدل على مشروعيتها، فالحق لا يكون دائماً ملازمًا للكثرة، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} [الأنعام:116].

وهذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دليل على إبطال بدعة المولد؛ لأنّ المراد بالإجماع في الأثر إجماع الصحابة، والأثر عند الإمام أحمد في مسنده: (إنّ الله نظر إلى قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ)([21]).

قال السندي: "ظاهر السوق يقتضي أنّ المراد بهم الصحابة، على أنّ التعريف للعهد([22])، فالحديث مخصوص بإجماع الصحابة لا يعم إجماع غيرهم، فضلاً عن أن يعم رأي بعض، ثم الحديث مع ذلك موقوف غير مرفوع"([23]).

وابن مسعود وأبو موسى الأشعري حين أنكرا على الحِلق التي تذكر الله ذكرًا جماعيًّا رأيا ذلك مخالفًا لهدي الصحابة، وعدَّا هذا العمل سيئًا، إذ قال لهم ابن مسعود: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدُّوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملَّة هي أهدى من ملَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله ـ يا أبا عبد الرحمن ـ ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه([24]).

ولم يذكر عن أحد من الصحابة أنّه خالف ما جاء عن ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما من الإنكار على الذين يجتمعون للتسبيح والتحميد والتكبير، فرأوا جميعًا أنه سيئ؛ فهو عند الله سيئ فكيف بالذين يجتمعون لقراءة موالد قد يكون فيها الشرك الصراح والكفر البواح.

الشبهة التاسعة:

أنّ المولد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهو سنّة. وهذه أمور مطلوبة شرعًا وممدوحة، وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها.

مناقشة هذه الشبهة:

كون المولد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم صحيح، ولكنه اجتماع على سبب غير مشروع، فالعبادة يجب أن تكون موافقة للشريعة في سببها، فأيُّ إنسان يتعبد لله بعبادة مبنيّة على سبب لم يثبت بالشرع فهي عبادة مردودة ليس عليها أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ويوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم سببًا للاجتماع للصلاة عليه، وإخراج الصدقة، وإنشاد المدائح الشركيّة التي لا تكاد تخلو منها تلك المجالس البدعيّة ومن ذلك قول صاحب البردة مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ بـه         سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي          فضلاً، وإلاَّ فقـل يا زلة القدم

فإنّ من جودك الدنيا وضرّتهـا            ومن علومك علم اللوح والقلم

والله تعالى يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، قال ابن مسعود: (إن كل شيء أوتيه نبيكم صلى الله عليه وسلم إلاّ علم الغيب)، ثم تلا الآية([25]).

وما كان مؤديًا إلى ما هو منهيٌ عنه شرعًا فهو غير مطلوب شرعًا، والآثار الصحيحة جاءت بالحث على الذكر وعلى الصدقة، وبالحث على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، ولكنها لم تأت أبدًا بالحث على الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعطى ما هو من خصائص الله سبحانه؛ فيقع في الشرك المتوعد عليه بالخلود في النار.

الشبهة العاشرة:

ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول بدعة سيئة منكرة، بل يجب عرض هذا المحدث على أدلة الشرع فما اشتمل على مصلحة فهو واجب، أو على محرم فهو محرم، أو على مكروه فهو مكروه، أو على مباح فهو مباح، أو على مندوب فهو مندوب، وللوسائل حكم المقاصد، فالعلماء قسموا البدعة إلى خمسة أقسام:

1.   واجبة، كالرد على أهل الزيغ، وتعلم النحو.

2.   مندوبة، كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنائر.

3.   مكروهة، كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف.

4.   مباحة، كاستعمال المنخل والتوسع في المأكل والمشرب.

5.   محرمة، وهي ما أحدث لمخالفة السنة، ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية.

مناقشة هذه الشبهة:

هذا التقسيم للبدعة إلى أحكام الشرع الخمسة قد ردّه جماعة من أهل العلم، قال الشاطبي: "إن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده؛ إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخيَّر فيها، فالجمع بين عدِّ تلك الأشياء بدعًا وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها إو إباحتها جمع بين متنافيين"([26]).

والمستدل بهذا التقسيم يريد أن يسوي بين البدعة وبين المصالح المرسلة، فلا بد حتى لا يروج هذا التلبيس من توضيح نقاط الاتفاق والاختلاف بين البدعة وبين المصالح المرسلة:

أولاً: نقاط الاجتماع والاتفاق بين البدعة والمصالح المرسلة:

1.   أنّ كلاً من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة.

2.   أنّ كلاً من البدعة ـ في الغالب ـ والمصلحة المرسلة خالٍ عن الدليل الخاص المعيَّن؛ إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما.

ثانيًا: نقاط الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة:

1.   تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عُقل معناه، ولا مدخل لها في التعبدات.

2.   وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها؛ فهم في الغالب يتقربون إلى الله بفعلها، ولا يحيدون عنها، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة.

3.   وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين وزيادة الحرج عليهم؛ بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين ورفع الحرج عنهم، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم.

4.   وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة، فإنها ـ لكي تعتبر شرعًا ـ لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وإلا لم تعتبر.

5.   تنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أنّ المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، وانتفاء المانع.

فالذي يدخل قضية الرد على أهل الزيغ، وتعلم النحو، وإحداث المدارس والأذان على المنائر، وكتابة المصحف الشريف في البدعة مغالط، يخلط بين البدعة وبين المصلحة المرسلة.

وإذا أردنا أن نعرض بدعة المولد النبوي على هذه الأقسام التي اخترعوها؛ فلن تحتلَّ بعد النظر المنصف على ضوء الكتاب والسنة إلا القسم الخامس:

قال الفاكهي في بدعة المولد: "إما أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محرمًا، وهو ليس بواجب إجماعًا، ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على من تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتديِّنون ـ فيما علمت ـ وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت. ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين، فلم يبق فيه إلا وصفان، والتفرقة بين حالين:

أحدهما: أن يحمله رجلٌ من ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئًا من الآثام، فهذا الذي وصفناه بدعة مكروهة([27]) وشناعة؛ إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء وتتبعه نفسه، وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الغانيات، إما مختلطات بهم، أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو، ونسيان يوم المخاف.

وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهنّ رافعاتٍ أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاء، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد؛ غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ} [الفجر:14].

وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحل ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المشتغلين بالآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ))([28])"([29]).

الشبهة الحادية عشرة:

قال الإمام الشافعي: "ما أحدث وخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئًا من ذلك فهو المحمود".

 مناقشة هذه الشبهة:

إنَّ هذا الكلام من الإمام الشافعي، ومثله قوله: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم"([30])، وكلام عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه).

كل هذه العبارات لا إشكال فيها، ولا اعتراض عليها، ولكن النزاع في كونها تدل على أن هناك بدعة في الدين مخترعة ليس لها مثال سابق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد الله بها، يمكن أن تسمى بدعة حسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل بدعة ضلالة))، فليست هناك بدعة في الدين إلا وهي ضلالة بنص هذا الخبر.

فلا يعني الإمام الشافعي بقوله: "وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئًا من ذلك فهو المحمود" البدعةَ في الدين أبدًا، وإنَّما عنى البدعة اللغويَّة التي تعتبر من المصالح المرسلة كجمع القرآن في مصحف واحد، وجمع الناس عليه خشية افتراقهم في كتاب الله، وفتح المدارس ونشر العلم عن طريق التصنيف، وكجمع عمر الناس في صلاة التراويح على إمام واحد، لم يأت بشيء مبتدع ليس له سابق مثال من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس ليلتين، ثم ترك ذلك خشية أن يفرض عليهم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، وإنما قال عمر: (نعمت البدعة هذه) لأن جمعهم هكذا كان بعد أن كانوا يصلون فرادى وجماعات متفرقة في آنٍ واحد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى البدعة في كلامه البدعة اللغوية كما تقدم بيانه.

وكيف يفهم من كلامهم أن في الدين بدعة حسنة لا تخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا، فما من بدعة في الدين إلا تخالف قول الله تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]، وتخالف قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))([31])، وتخالف إجماع أهل العلم على مقتضى هذه الآية أنّ الدين كَمُل، وأن الرسول بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، قال الإمام مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا"([32]).

والبدعة في الدين تخالف الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، قال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا) ([33]).

وقيل لسلمان: قد علَّمكم نبيُّكم صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء حتى الخراءة!! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم([34]) .

بل قد ورد إنكار ابن مسعود على جماعة تحلَّقوا يذكرون الله ويسبحونه ويهللونه، وحكمه عليهم أنهم أصحاب ضلالة، وبدعة الذكر الجماعي في تقسيمهم بدعة حسنة.

فهذه النقول عن الشافعي وغيره لا حجة فيها على هذا التقسيم الباطل عند أهل الفهم الصحيح، وحاشا الشافعي الإمام الحجة أن يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلَّ بدعة ضلالة))، بل ما أراد الشافعي بالبدعة المحمودة إلا البدعة اللغويَّة.

قال ابن رجب: "والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة"([35]).

الشبهة الثانية عشرة:

كل ما تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة، ولم يشتمل على منكر فهو من الدين.

وقول المتعصب: إن هذا لم يفعله السلف ليس هو دليلاً له، بل هو عدم دليل كما لا يخفى على من مارس علم الأصول.

مناقشة هذه الشبهة:

إن من مارس علم الأصول يدرك أن قائل هذا الكلام مُغَالِط، يُلَبِس على عوام الناس، فإن العلم بعدم فعل السلف لهذه البدعة دليلٌ، فيجب على من يردُّ عليهم دليلَهم هذا أن يثبت أنّ واحدًا من السلف فعله ليستقيم له الردّ.

بخلاف ما لو قالوا: "لا نعلم أحدًا من السلف عمل به"، فعدم العلم ليس علماً بالعدم، وهم لم يقولوا ذلك، بل جزموا بأنّ هذا الفعل لم يفعله أحدٌ من السلف.

وقد نقل غير واحد من العلماء أن هذه البدعة لم يعملها أحد في القرون الثلاثة المفضَّلة، قال شيخ الإسلام: "لم يفعله السلف الصالح مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه"([36])، وقال العلامة الفاكهاني: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمة"([37])، وقال الأستاذ أبو عبد الله محمد الحفار: "ليلة المولد لم يكن السلف الصالح ـ وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم ـ يجتمعون فيها للعبادة ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعظم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع"([38]).

وقال ابن حجر كما نقله عنه السيوطي: "أصل عمل المولد بدعة، لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة".

وقال السخاوي: "عمل المولد لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعدُ"([39]).

وقال الشيخ ظهير الدين جعفر التزمنتي: "هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح مع تعظيمهم وحبهم له ـ أي للنبي صلى الله عليه وسلم ـ إعظامًا ومحبة لا يبلغ جمعنا الواحد فيهم ولا ذرة منه"([40]) .

أمّا الاستدلال بحديث: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء))([41]) فمردود، ردّ عليه الإمام الشاطبي فذكر أن من يستدل به يزعم أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة)) من اخترع السنة من عند نفسه بشرط أن تكون حسنة، لا من عمل بسنة ثابتة، ويدَّعي أن التعبير عن العمل بالسنة الثابتة يكون: من عمل بسنتي أو سنة من سنتي وما أشبه ذلك، يردّ عليه بأن يقال: يلزم منه التعارض بين الأدلة، وأنَّ السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار ـ أو العباءة ـ متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب، فقال: (({يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ} إلى آخر الآية: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، والآية التي في الحشر: {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ} [الحشر: 18]، وبعد: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره)) حتى قال: ((ولو بشق تمرة)) قال: فجاءه رجل من الأنصار بِصُرَة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء)) فتأملوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنّ سنة حسنة)) تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرّة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة)) الحديث، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنّة"([42]).

الشبهة الثالثة عشرة:

تخريج السيوطي لبدعة المولد على حديث أنس أن النبي عقَّ عن نفسه بعد النبوة، قال: مع أنه قد ورد أن جده عقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعًا لأمته، كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات، وإظهار المسرات.

مناقشة هذه الشبهة:

الحديث الذي استند عليه السيوطي حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث، وهو عند عبد الرزاق في مصنفه، قال: أنبأنا عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة([43]).

وعبد الله بن محرر قال عنه أحمد: ترك الناس حديثه. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله، إلا أنَّه كان يكذب ولا يعلم، ويقلب الأخبار ولا يفهم، وقد ولي الرقة للمنصور([44]).

وقد نص مسلم في مقدمته على تركه لحديث عبد الله بن محرر، قال رحمه الله: "وكذلك مَن الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضًا عن حديثهم، وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته رواتهم، أو لم يكونوا فقهاء، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مستعمله. فمن هذا الضرب عبد الله بن محرر... فلسنا نعرِّج على حديثه، ولا نتشاغل به؛ لأن حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا"([45]).

وهذا الحديث قد تفرد بروايته عبد الله بن محرر، قال البزار: "تفرَّد به عبد الله بن محرر وهو ضعيف"([46]).

وقال الذهبي: "ومن بلاياه روى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد ما بعث"([47]).

وقال ابن القيم: "إنّما تركوا ابن محرر لهذا الحديث"([48]).


 


([1]) صحيح البخاري : كتاب النكاح، باب: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} ويحرم من الرضاعة (5101).

([2])  فتح الباري (12/389).

([3])  انظر: فتح الباري (9/146).

([4])  فتح الباري (9/146).

([5])  الإصابة (4/250).

([6])  طبقات ابن سعد (1/108).

([7])  الاستيعاب (1/55).

([8])  أخرجه مسلم (2454).

([9])  أخرجه الترمذي (747).

([10])  انظر هذه الآثار في تفسير الطبري (11/124-125).

([11])  تفسير القرآن العظيم (5/380).

([12])  الصارم المنكي (ص 427).

([13])  الموافقات (3/71).

([14])  الاعتصام (1/231).

([15])  أخرجه أحمد (4/126 – 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43).

([16])  تقدم تخريجه.

([17])  مجموع الفتاوى (27/152)

([18])  جامع العلوم والحكم (2/128).

([19])  تفسير ابن كثير (2/25).

([20])  أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/118).

([21])  المسند (1/379)، وحسَّن الشيخ شعيب إسناده في طبعته (6/84).

([22])  أي أنّ (أل) التعريف في قوله (المسلمون) للعهد، وليست للجنس، فلا يدخل فيه مَن سوى الصحابة.

([23])  نقلاً عن تعليق الشيخ شعيب في طبعته للمسند (6/85).

([24])  رواه الدارمي (1/72).

([25])  انظر: تفسير ابن جرير (21/89).

([26])  الاعتصام (1/188-220).

([27])  ولا يتقرب إلى الله تعالى بفعل المكروهات.

([28])  أخرجه مسلم (145).

([29])  المورد في عمل المولد (ص 13).

([30])  نقله ابن حجر في فتح الباري (13/253).

([31])  أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([32])  انظر: الاعتصام (1/49).

([33])  أخرجه أحمد (20854).

([34])  أخرجه مسلم (262).

([35])  جامع العلوم والحكم (2/127).

([36])  الاقتضاء (1/294).

([37])  المورد في عمل المولد (ص 8).

([38])  انظر: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل (ص 437)، ضمن رسائل حكم الاحتفال بالمولد النبوي.

([39])  السيرة الشامية (1/439).

([40])  السيرة الشامية (1/442).

([41])  سبق تخريجه.

([42])  الاعتصام (1/142-145).

([43])  المصنف (4/329).

([44])  انظر: الميزان للذهبي (2/500).

([45])  مقدمة صحيح مسلم.

([46])  انظر: فتح الباري (9/595).

([47])  الميزان (2/500).

([48])  تحفة المودود (ص 88).

 
.