|
||
. |
||
محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس: الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل: الصفحة السابقة الصفحة التاليـة (الصفحة الرئيسة) |
||
|
||
الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل:قال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً"[1]. وإذا كان العقل هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية فإن حفظه إذاً ضرورة لا غنى عنها ولا تستقيم حياة الناس بدون ذلك[2]. مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية بحفظ العقل أنها حرمت كل ما من شأنه إفساد العقل وإدخال الخلل عليه، وهذه المفسدات على قسمين: وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقاً من عدو ولا خيراً من شر، فيختل كلامه المنظوم، ويذيع سره المكتوم، وهذه المفسدات هي الخمور والمخدرات وما شابهها[3]. قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأنصَابُ وَٱلأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:90، 91]. قال سيد قطب: "إن غيبوبة السكر بأي مسكر تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولاً بالله في كل لحظة مراقباً لله في كل خطوة، ثم ليكون بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء، والفرد المسلم ليس متروكا لِذاته ولَذَّاته، فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة، تكاليف لربه وتكاليف لنفسه وتكاليف لأهله وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها، وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف، وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظاً لهذا المتاع فلا يصبح عبداً لشهوة أو لذة، إنما يسيطر دائماً على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره، وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه. ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار، والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق، ويريد من الناس أن يروا الحقائق وأن يواجهوها ويعيشوا فيها ويصرفوا حياتهم وفقها ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام... إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة، أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ووهن العزيمة وتذاوب الإرادة، والإسلام يجعل في حسابه دائماً تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة والإدمان، وهذا الاعتبار كاف وحده من عمل الشيطان مفسد لحياة الإنسان"[4]. فالخمر من أعظم أسباب التعدي على الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحمايتها، فكم حصل بسببها من سفك للدماء المحرمة وانتهاك للأعراض وإتلاف للأموال وإفساد للعقول وتفويت لمصالح الدين، ومنشأ ذلك هو اختلال العقل المدرك القائد للإنسان إلى مصالحه[5]. وهي ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها من أنشطة الحياة، فهذه مفسدة للعقول من حيث كون الإنسان قد عطل عقله عن التفكير السليم الذي يوافق الشرع، فعقله من هذه الحيثية كأنه فاسد لا يفكر، بل كأنه معدوم بالمرة. لذا نعى الله في كتابه على الكفار حيث عطلوا عقولهم عن التفكير في آيات الله القرآنية وآياته الكونية، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحق، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]. قال ابن سعدي: "سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع، وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، بل هم أضل من الأنعام"[6]. فالعقل إن لم يجعل مطية للوصول إلى فهم كلام الله وكلام رسوله والتدبر في خلق الله وبديع صنعته فإن وجوده كعدمه، فيجب تسخير العقل في الوصول إلى الحق والمحافظة عليه من كل دخيل أو مذهب هدام أو نحلة باطلة تغير مفهوماته الشرعية[7]. قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين[8]. وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين[9]. قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ"[10]. وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر"[11]. وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين"[12].
[1] الإحكام في أصول الأحكام (1/138- 139). [2] الإسلام وضرورات الحياة (ص 112). [3] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص237). [4] في ظلال القرآن (2/977). [5] مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 223، 229) بتصرف. [6] تيسر الكريم الرحمن (ص 584). [7] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 243- 244). [8] صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706). [9] أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779). [10] المغني (12/497). [11] مراتب الإجماع (ص133). [12] مراتب الإجماع (ص133). |
||
|
||
. |