|
||
. |
||
الشرك: أولاً: تمهيــد: الصفحة السابقة الصفحة التالية (الصفحة الرئيسة) |
||
|
||
أولا: تمهيد: 1- أهمية التوحيد ومعرفة ما يضاده: قال ابن أبي العز: "اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال هود عليه السلام لقومه: {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}... وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله))[1]. ولهذا كان الصحيح أنَّ أوَّل واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك، كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان... فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))[2]، وهو أول واجب وآخر واجب"[3]. ولأهمية التوحيد كان لا بد من معرفة ما يضادّه وهو الشرك حتى يحذر منه المرء على توحيده. قال سليمان آل الشيخ: "لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، نبه المصنف بهذه الترجمة[4] على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره، ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكرَه كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)"[5]. 2- هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟ اتفق أهل الملل الثلاثة ـ اليهود والنصارى والمسلمون ـ على أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليه. وذلك بناء على أن البشر خلقوا من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام كما قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء:1]. وهذا متفق عليه بين الديانات الثلاثة[6]. ومما يدل على ذلك: 1- أن الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلّم أبناءه التوحيد. قال ابن تيمية: "ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ} [يونس:19]، قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام). فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك، لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام"[7]. 2- أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الفطرة التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم30]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ} [الأعراف:172]. قال ابن عباس: (مسح ربك ظهر آدم فخرجت كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان[8] هذه ـ وأشار بيده ـ، فأخذ مواثيقهم وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ})[9]. وقال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر ـ يا محمد ـ ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به"[10]. 3- بين الله تعالى أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى:13]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ} [الأنبياء:24]. قال ابن تيمية: "إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين... فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه... وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصائبة والمشركين، كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص، ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام"[11]. 4- ومن الأدلة في السنة النبوية حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطاناً))[12]. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء[13] هل تحسون فيها من جدعاء[14]؟!))، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30][15]. قال ابن تيمية: "فالصواب أنها فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ} [الأعراف:172]، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة... وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!)) بيّن أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حدثٌ طارئ"[16]. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يوضّح كيفية دخول الشرك، فعنه في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ؛ أما وَدّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبإ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبِدَت)[17].
[1] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} (25)، ومسلم في الإيمان (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [2] أخرجه أحمد في مسنده (5/233)، وأبو داود في الجنائز، باب: في التلقين (3116)، والحاكم في المستدرك (1/503) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2673). [3] شرح العقيدة الطحاوية (77-78)، وانظر: مدارج السالكين (3/462). [4] هي ترجمة: (باب الخوف من الشرك) في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. [5] تيسير العزيز الحميد (114). [6] الشرك في القديم والحديث (1/181). [7] مجموع الفتاوي (20/106). [8] أي: بعرفة. [9] جامع البيان (6/110). [10] جامع البيان (6/110). [11] مجموع الفتاوي (28/603). [12] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865). [13] أي: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء. النهاية في غريب الحديث (1/296). [14] أي: مقطوعة الأطراف، أو واحدها. النهاية في غريب الحديث (1/247). [15] أخرجه البخاري في التفسير، باب: {لا تبديل لخلق الله} (4775)، ومسلم في القدر (2658). [16] مجموع الفتاوى (4/245). [17] أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق} (4920). |
||
|
||
. |