|
||
. |
||
ما يتعلق بالمسافر من أحكام الطهارة: ثانياً: التيمم: الصفحة السابقة |
||
|
||
ثانيًا: التيمم: يشرع للمسافر إذا لم يجد الماء أن يتيمم، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 43]. وقال تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ} [المائدة: 6]. وثبت في سبب نزول آية التيمم ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عِقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التِماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟! أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا أهل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه فأصبنا العقد تحته([1]). وأما السنة: فعن عبد الرحمن بن أبزى أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر ـ يا أمير المؤمنين ـ إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك))([2]). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية التيمم للمسافر إذا عدم الماء([3]). اتفق العلماء على أن المسافر إذا تيقَّن عدم وجود الماء فإنه لا يلزمه الطلب، لأن الطلب والحالة هذه لا فائدة منه، مع ما يحلقه من الحرج بذلك، والتيمم إنما شرع لدفع الحرج. واتفقوا أيضًا على أنه إذا تيقن وجود الماء، أو غلب على ظنه فإنه يلزمه الطلب. واختلفوا فيما إذا تردد وشك بين الوجود وعدمه، فذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب عليه الطلب، وأنه لا يباح له التيمم إلا بعد الطلب، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً}، ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب فلم يصب، أما من لم يطلب فلا يقال في حقه: لم يجد، كما أنك إذا قلت لوكيلك: اشتر لي رطبًا، فإن لم تجد فعنبًا، لم يجز له أن يشتري العنب إلا بعد البحث عن الرطب وفقدها([4]). سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن المسافر يدخل عليه وقت الصلاة، فهل له أن يتيمم ويصلي وهو يغلب على ظنه أنه سيجد الماء بعد مائة كيلو؟ فأجاب رحمه الله: "نعم، إذا دخل الوقت على المسافر، وليس عنده ماء فلا حرج أن يتيمم، لكن العلماء يقولون: إذا كان يرجو وجود الماء في آخر الوقت فالأفضل أن يؤخر"([5]). أجاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن هذا السؤال فقال: "من العلماء من قال: يُلزم بحمل الماء إذا لم يضره، والآن ما يضرُّه في الواقع حمل الماء؛ لأنه يمكن أن يأخذه في جالون([6]) أو جالونين في السيارة الصغيرة"([7]). اختلف العلماء في هذه المسألة: فقال بعضهم: لا يصلي حتى يجد أحد الطهورين وإن خرج الوقت؛ لأن الله تعالى لا يقبل صلاة بغير طهور. وقال آخرون: يصلي على حسب حاله ويعيد الصلاة متى ما وجد أحد الطهورين. وقال جمهور العلماء: يصلي على حسب حاله، وليس عليه إعادة؛ لأنه أدَّى ما أُمر به على الوجه الذي يطيقه. وهذا القول هو الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله، فقال: "إذا لم يقدر على استعمال الماء ولا على التمسح بالصعيد، فإنه يصلي بلا ماء ولا تيمم عند الجمهور، وهذا أصح القولين. وهل عليه الإعادة؟ على قولين: أظهرهما أنه لا إعادة عليه؛ فإن الله يقول: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))([8])، ولم يأمر العبد بصلاتين، وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة، والله أعلم"([9]). سئل الشيخ ابن عثيمين عن ذلك فأجاب: "هذا فيه تفصيل: أولاً: يترجَّح تأخير الصلاة إلى آخر الوقت في حالين: الأولى: إذا علم وجود الماء، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ولا يقال بالوجوب؛ لأن علمه بذلك ليس أمرًا مؤكدًا؛ لأنه قد يتخلف المعلوم. الثاني: إذا ترجح عنده وجود الماء، فيؤخر الصلاة؛ لأن في ذلك محافظة على شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء، وفي الصلاة أول الوقت محافظة على فضيلة فقط، وعلى هذا يكون التأخير والطهارة بالماء أفضل. ثانيًا: يترجح تقديم الصلاة في أول وقتها في ثلاث حالات: الأولى: إذا علم أنه لن يجد الماء. الثانية: إذا ترجع أنه لن يجد الماء. الثالثة: إذا تردد فلم يترجح عنده شيء"([10]). اتفق العلماء على أن المسافر إذا تيمم ثم وجد الماء قبل الشروع في الصلاة أن تيممه يبطل، ويلزمه الوضوء للصلاة([11]). واتفقوا أيضًا على أنه إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء بعد خروج الوقت أنه لا إعادة عليه([12]). واختلفوا فيما إذا وجد الماء أثناء الصلاة أو بعد انقضائها وقبل خروج الوقت: فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة، فهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم. فمنهم من قال: إن التيمم لا يبطل بوجود الماء حينئذ لأنه شرع في الصلاة على وجه مأذون فيه شرعًا، فلا يخرج منها إلا بدليل شرعي. ومنهم من قال: إنه يبطل التيمم بوجود الماء في الصلاة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}، وهذا قد وجد الماء فيبطل تيممه، وإذا بطل التيمم بطلت الصلاة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته))([13])، ولأن التيمم بدل عن طهارة الماء عند فقده، فإذا وجد الماء زالت البدلية فيزول حكمها، فحينئذ يخرج من الصلاة ويتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد. والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن القول الثاني أقرب للصواب. أما إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة، لما رواه أبو داود وغيره في قصة الرجلين اللذين تيمما ثم صليا وبعد صلاتهما وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فلم يعد الصلاة، وأما الآخر فتوضأ وأعاد الصلاة، فلما قدما أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام للذي لم يعد: ((أصبت السنة))، وقال للذي أعاد: ((لك الأجر مرتين))([14]). فإن قال قائل: أنا أريد الأجر مرتين. قلنا: إنك إذا علمت بالسنة فخالفتها فليس لك الأجر مرتين، بل تكون مبتدعًا، والذي في الحديث لم يعلم بالسنة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين، العمل الأول والثاني. فإن قيل: المجتهد إذا أخطأ فليس له إلا أجر واحد كما جاء في الحديث: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر))([15])، فكيف كان لهذا المخطئ في إعادة الصلاة الأجر مرتين؟! فالجواب: أن هذا عمل عملين بخلاف الحاكم المخطئ، فإنه لم يعمل إلا عملاً واحدًا، فلم يحكم مرتين. بهذا يتبين لنا أن موافقة السنة أفضل من كثرة العمل"([16]).
([1]) أخرجه البخاري في التيمم [334]، ومسلم في الحيض [367]. ([2]) أخرجه البخاري في التيمم [338]، ومسلم في الحيض [368]. ([3]) انظر تفسير القرطبي (5/218) وبداية المجتهد (1/167). ([4]) انظر: المغني (1/150). ([5]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 69). ([6]) الجالون في الأصل كلمة أعجمية، وهو مقياس للسوائل، والمراد به هنا الإناء الذي يحمل فيه الماء. ([7]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 69). ([8]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام [7288]، ومسلم في كتاب الحج [1337] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ([9]) مجموع الفتاوى (21/467). ([10]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 87). ([11]) انظر: الأوسط لابن المنذر (2/65). ([12]) انظر: الأوسط لابن المنذر (2/63). ([13]) أخرجه أحمد في المسند (5/146، 155)، وأبو داود في كتاب الطهارة [332]، والترمذي في كتاب الطهارة [124] من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان [1311]، والحاكم (1/170)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع [1663]. ([14]) أخرجه أبو داود في الطهارة [338]، والدارمي [744] من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم (1/178)، وذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود [327]. ([15]) أخرجه البخاري في الاعتصام [7352]، ومسلم في الأقضية [1716] من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. ([16]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 79، 80). |
||
|
||
. |