الملف العلمي

.

  العقوبات وأثرها في الحد من الجرائم: الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات الصفحة السابقة      الصفحة التالية   (الصفحة الرئيسة)

 

الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات:

المبحث الأول: مقصد حفظ العقل وأهميته.

إن العقل هو الذي استحقَّ به الإنسان أن يكون خليفةً في الأرض وأن يُسخَّر له ما في السماوات والأرض الكون، وهو أيضاً مناط التكليف، فقد جعله الفقهاء شرطاً لصحة العمل، فلا يصحُّ العمل إلا به؛ لذلك حرَّم الإسلام تناولَ الخمر وكل مخدِّر، وشرع في ذلك الحد أو التعزير تأديباً لمتعاطيها وراحةً لغيره وحمايةً للمجتمع من خطرها ومحافظةً على أمن الأمة[1].

المبحث الثاني: جريمة شرب الخمر وأضرارها.

تتضح أضرار الخمر في أمور عديدة منها:

1- أنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة:

قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:91].

قال القرطبي: "أي: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلّط عليكم"[2].

2- أنها تسبِّب العداوة والبغضاء:

قال القرطبي: "أعلَمَ اللهُ تعالى عبادَه أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منه ونهانا عنه"[3].

3- أن فيها إثماً عظيماً بسبب السكر:

قال تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة:219].

قال ابن عباس: (يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها)[4].

وقال السدي: "فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس"[5].

قال ابن جرير: "وإنما كان ذلك لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضاً"[6].

4- أن لها ضرراً عظيماً على البدن والعقل:

يقول علماء الطب: والخمر توهن البدن وتجعله أقلَّ مقاومةً وجلَداً في كثير من الأمراض مطلقاً، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية، لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الأسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام، لا لمستعملها وحده بل وفي أعقابه من بعده[7].

5- أن لها مضاراً اقتصادية على البلدان:

يقول علماء الاقتصاد: إن كلَّ درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن، وكل درهم نصرفه لمضرتنا فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدًى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها[8].

المبحث الثالث: عقوبة شرب الخمر.

قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين[9].

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين[10].

قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ"[11].

وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر"[12].

وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين"[13].

المبحث الرابع: جريمة تعاطي المخدرات وأضرارها.

تعاطي المخدرات جريمة خطيرة انتشرت في زماننا هذا، أضرارها بالغة الخطورة فمن ذلك:

1- أضرار صحية وهي كثيرة جداً، فمنها:

أ- هبوط عام في الجهاز المركزي.

ب- تصلب الشرايين.

ج- الضعف الجسمي.

د- اضطراب الجهاز التنفسي ومسالكه والتهاب الشعب.

هـ- حرمان الجهاز العظمي من الكميات المطلوبة للجسم.

2- أضرار نفسية وهي كثيرة أيضا ًفمنها:

أ- عند اقتراب موعد التعاطي تنتاب المدمن أعراض تشتد تدريجياً وهي توتُّر وشعور بقلق شديد وانقباض وهبوط عصبي لا يستقر المدمن معه.

ب- يكون في حالة بكاء تشلُّ الجسدَ عن الحركة حين تجيء النوبة إلى أن يتعاطى المخدِّر.

ج- اعتقاد متعاطيه أنه قادر على كل شيء واختراع أفكار وهمية.

د- المدمن يكون دائماً ذليلاً في تهيُّج وتذلُّل حتى في شرائه للمخدِّر، ويتألم إذا لم يتعاطاه.

3- أضرار اجتماعية ومنها:

أ- المخدرات تعمل على تجسيم المشاعر والانفعالات، وأكثر المتعاطين تتأثر تهيُّؤاتهم وتتضخَّم إلى أقصى درجة، فيؤدِّي ذلك إلى عدوانه على الآخرين، فهي باعث للجريمة.

ب- التسبب في حوادث السيارات؛ لأن تناوله يقرِّب البعيد في النظر ويبعِّد القريب أحياناً، فيقع الحادث ولا يشعر السائق.

ج- التفكّك الأسري بسبب ما يحصل من المدمن من العدوان على أهله وأولاده، بل ربما والده ووالدته، وهذا التعدي قد يصل إلى درجة العدوان بالقتل أو على العرض بالهتك، فتفكَّك الأسر بذلك، فيؤدي بدوره إلى تفكّك المجتمع[14].

المبحث الخامس: عقوبة ترويج المخدرات.

قرَّرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالإجماع قتلَ مهرِّب المخدرات لما يسبِّبه تهريب المخدرات من فساد عظيم لا يقتصر على المهرِّب نفسه، وأضرار جسيمة وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرِّب الشخصُ الذي يستورِد أو يتلقَّى المخدرات من الخارج فيمون بها المروِّجين[15].

المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة تعاطي الخمر والمخدرات.

1- صيانة العقول:

قال محمد بن عبد الرحمن البخاري: "وأما حدّ الشرب فهو مشروع لصيانة العقول، فإن العقل أعز الأشياء، به الثواب والعقاب والخطاب، فمن جنى عليه استحق العقوبة، فليس عقله ونفسه بخالص حقِّه، بل لله تعالى فيه حق التخليق، وللعبد حق الانتفاع، فإذا جنى على حق الله تعالى شرع الزاجر، فالله تعالى شرَّفه بالعقل وألحقه بالملائكة، بل فضل بعضهم عليهم، فهو بشرب الخمر ألحق نفسه بالبهائم، فجوزي بالعقوبة زجرًا له عن هذا الصنيع"[16].

2- حفظ أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم من عبث أهل الخمور:

عن علي رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم واعدتُ رجلا صواغا في بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر، فأردت أن أبيعه من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجلٍ من الأنصار حتى جمعت ما جمعت فإذا أنا بشارفي قد أُجبَّت أسنمتهما، وبُقرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت المنظر، قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار عنده قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:

ألا يا حمزُ للشُّرُف النواء

فوثب حمزة إلى السيف فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي لقيت، فقال: ((ما لك؟)) قلت: يا رسول الله، ما رأيتُ كاليوم، عدا حمزة على ناقتيَّ فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيتٍ معه شرب، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى ثم انطلق يمشي واتبعتُه أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيتَ الذي فيه حمزة، فاستأذن عليه فأذن له، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمِل محمرَّة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم صعَّد النظر فنظر إلى ركبتِه ثم صعَّد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمِل فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه[17].

قال الحافظ ابن حجر: "فيه علة تحريم الخمر"[18].


[1] الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12، السنة: 1405هـ.

[2] الجامع لأحكام القرآن (6/292).

[3] الجامع لأحكام القرآن (6/292).

[4] انظر: جامع البيان (2/372).

[5] انظر: جامع البيان (2/372).

[6] جامع البيان (2/373).

[7] انظر: فقه السنة (2/373).

[8] انظر: فقه السنة (2/374).

[9] صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706).

[10] أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779).

[11] المغني (12/497).

[12] مراتب الإجماع (ص133).

[13] مراتب الإجماع (ص133).

[14] الحكم في السطو والاختطاف والمخدرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12.

[15] انظر نص القرار في مجلة البحوث الإسلامية، عدد: 21، سنة: 1408هـ.

[16] محاسن الإسلام (ص60).

[17] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3091) واللفظ له، ومسلم في الأشربة (1979).

[18] فتح الباري (6/201).

 

.