|
||
. |
||
العقوبات وأثرها في الحد من الجرائم: الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات: الصفحة السابقة الصفحة التالية (الصفحة الرئيسة) |
||
|
||
الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات: المبحث الأول: مقصد حفظ النفس وأهميته. لقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عنايةً فائقة فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها ويدفع المفاسد عنها وذلك مبالغةً في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها؛ لأنه بتعريض الأنفس للضياع والهلاك يُفقد المكلَّف الذي يتعبَّد لله سبحانه وتعالى، وذلك بدوره يؤدي إلى ضياع الدين. والنفس التي عُنيت الشريعة بحفظها هي الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، وأما غير ذلك كنفس المحارِب فليست الشريعة تعنى بحفظها لكون عدائه للإسلام ومحاربته له أعظم في نظر الشريعة من إزهاق نفسه، وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان ويجيز الشارع للحاكم إزهاقَها بالقصاص أو الرجم وليس هذا من قبيل عدم العناية بها والمحافظة عليها، بل لكون مصلحة حفظها عورضت بمصلحة أعظم فأخذ بأعظم المصلحتين[1]. المبحث الثاني: جريمة القتل وخطرها. القتل جريمة خطيرة لها أضرارها على الأفراد والمجتمعات، وقد ذكر الله تعالى تحريمها في مواطن من القرآن قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ} [الأنعام:151] في موضعين من القرآن، قال القرطبي: "وهذه الآية نهيٌ عن قتل النفس المحرَّمة مؤمنةً كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها"[2]. وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة))[3]. فمن أضرار جريمة القتل ومظاهر خطورتها: 1- أنها من الكبائر المنصوص عليها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)) الحديث[4]. 2- أنها متوعَّد عليها بالعذاب العظيم والغضب واللعنة من الله: قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]. قال أبو هريرة وجماعة من السلف: (هذا جزاؤه إن جازاه)[5]. 3- أن قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً: قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً...} [المائدة:32]. قال ابن كثير: "أي: من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحلَّ قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعاً لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس"[6]. 4- أنها أولُ ما يقضي فيه بين العباد يوم القيامة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يقضى بين الناس في الدماء))[7]. قال الحافظ: "وفيه عظم أمر القتل؛ لأن الابتداء إنما يقع بالأهم"[8]. القتل ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد وخطأ. القتل العمد: وعقوبته القصاص. قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى} [البقرة:178]. قال شيخ الإسلام مبينا هذا النوع: "هو أن يقصِد من يعلمُه معصوماً بما يقتل غالباً، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان[9] وكُوذين[10] القصَّار، أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله وجب فيه القوَد، وهو أن يمكَّن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله"[11]. القتل شبه العمد: وعقوبته الدية المغلظة. قال شيخ الإسلام: "النوع الثاني الذي يشبه العمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها)) سماه شبه العمد؛ لأنه قصد العدوان عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالباً، فقد تعمَّد العدوان ولم يتعمَّد ما يقتل"[12]. القتل الخطأ: وعقوبته الدية والكفارة. قال تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء:92]. قال شيخ الإسلام: "والثالث الخطأ المحض وما يجري مجراه، مثل أن يرمي صيداً أو هدفاً فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده، فهذا ليس فيه قوَدٌ، وإنما فيه الدية والكفارة"[13]. المبحث الرابع: آثار تطبيق عقوبة القصاص: 1- إرضاء أولياء المقتول وإذهاب غيظهم وإخماد الفتن: قال شيخ الإسلام: "قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتلَ وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل، وقد يستعظمون قتلَ القاتل لكونه عظيماً أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم وهؤلاء قوماً فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتلى، وأخبر أن فيه حياةً، فإنه يحقن دمَ غير القاتل من أولاء الرجلين"[14]. 2- ردع من يريد القتل وحفظ النفوس: قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلألْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]. قال أبو العالية: "جعل الله القصاص حياةً فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل"[15]. قال ابن كثير: :وفي الكتب المتقدمة: (القتل أنفى للقتل)، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز"[16].
[1] مقاصد الشريعة الإسلامية (ص 211). [2] الجامع لأحكام القرآن (7/133). [3] متفق عليه وقد تقدم تخريجه في الفصل الأول، المبحث الثالث. [4] أخرجه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (6857)، ومسلم في الإيمان (89). [5] انظر: تفسير القرآن العظيم (1/550). [6] تفسير القرآن العظيم (2/49). [7] أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (6864)، ومسلم في القسامة (1678). [8] فتح الباري (12/196). [9] السندان: قال البعلي في المطلع على أبواب المقنع (ص357): "لم أره في شيء من كتب اللغة، فالظاهر أنه مولد، وهو عبارة عن الآلة المعروفة من الحديد الثقيل يعمل عليها الحداد صناعته". [10] الكوذين: قال البعلي في المطلع (ص357): "لفظ مولد، وهو عن أهل زماننا عبارة عن الخشبة الثقيلة التي يدق بها الدقاق الثياب". [11] مجموع الفتاوى (28/373، 374). [12] مجموع الفتاوى (28/378). [13] مجموع الفتاوى (28/378). [14] مجموع الفتاوى (28/374، 375). [15] انظر: تفسير القرآن العظيم (1/225). [16] تفسير القرآن العظيم (1/225). |
||
|
||
. |