الملف العلمي

.

   العقوبات وأثرها في الحد من الجرائم: الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:    الصفحة السابقة        الصفحة التالية    (الصفحة الرئيسة)

 

الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:

المبحث الأول: مقصد حفظ الدين وأهميته.

لما كان التديُّن فطرةً في الإنسان فلا بد للإنسان من أن يدين بدين، سواء كان ذلك الدين حقاً أم باطلاً، فإن مخالفة تلكم الفطرة شذوذ وانحراف، ولكن المقصود بالدين هنا الدين الحق المنزل من رب العالمين الخالص من البدع والتحريف وهو دين الإسلام الحنيف الذي لا يقبل الله من أحد سواه، {إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ} [عمران:19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} [عمران:85].

وحفظ الدين أهمُّ مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا يمكن أن يكون هذا المقصد العظيم معرَّضاً للضياع والتحريف والتبديل؛ لأن في ذلك ضياعاً للمقاصد الأخرى وخراباً للدنيا بأسرها[1].

المبحث الثاني: الردة وخطرها.

الردة هي أخطر جريمة تهدِّد دين الإنسان وتنقضه.

تعريفها:

قال البعلي: "الردة الإتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقاً وإما اعتقاداً وإما شكاً"[2].

خطورة الردة وضررها:

تكمن خطورة الردة في محاذير كثيرة منها:

1- حبوط عمل المرتد: قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ} [البقرة:217].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة"[3].

2- خلود المرتد في النار: وتدل عليه الآية السابقة.

3- لا يغفر الله للمرتد ولا يهديه: قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137].

قال ابن كثير: "يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقا إلى الهدى"[4].

4- أن الردةَ سلاح خطير إذا استعمله الأعداء فإن له أثرَه في زعزعة المسلمين وتشكيك ضعاف الإيمان بدينهم وإحداث البلبلة بينهم، ومن خبث اليهود أنهم استعملوا هذا السلاح لحرب الإسلام وزلزلة المسلمين وإيقاعهم في الشك والارتياب في دينهم، فقد كان كبار اليهود يقولون لصغارهم: تظاهروا بالإيمان في أول النهار واكفروا آخرَه لكي يقول المسلمون: إنَّ رجوعهم عن الدين بعدما دخلوا فيه دليل على عدم صحته وعدم صلاحيته لأنهم أهل كتاب ولهم سبق إلى دين السماء وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ ءامِنُواْ بِٱلَّذِي أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [عمران:72][5].

المبحث الثالث: عقوبة الردة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دينَه فاقتلوه))[6].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة))[7].

قال ابن قدامة: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين"[8].

المبحث الرابع: أثر تطبيق حدِّ الردَّة.

لهذا الحد أثره الواضح في المجتمع، وذلك أنه يكون مؤثراً في التمسك بالدين؛ لأن المسلم يشهد أن لا إله إلى الله وأن محمداً رسول الله وهي شهادة إقرار على التسليم بكل أحكام الإسلام، وهو يعلم حين يقر بالشهادة أن من أحكام هذا الدين قتله إن ارتد، فقبل وأذعن مختاراً وحافظ على دينه وازداد تمسكه به[9].

يقول شيخ الإسلام في الحكمة من قتل المرتد: "فإنه لو لم يُقتَل لكان الداخلُ في الدين يخرج منه، فقتلُه حفظٌ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه"[10].

ويقول عبد القادر عودة: "وتُعاقب الشريعةُ على الردة بالقتل لأنها تقع ضدَّ الدين الإسلامي وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثمَّ عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى، ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولِّد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال"[11].


[1] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص192-193).

[2] المطلع على أبواب المقنع (ص 378).

[3] مجموع الفتاوى (11/700).

[4] تفسير القرآن العظيم (1/579).

[5] تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص38)، وانظر القصة المذكورة في جامع البيان (3/309-310).

[6] أخرجه البخاري في استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6922).

[7] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين (1676).

[8] المغني (12/264).

[9] تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص 38) بتصرف يسير.

[10] مجموع الفتاوى (20/102).

[11] التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (1/661، 662).

 

.