الوظيفة في القطاع الحكومي العسكري والمدني وفي القطاع الأهلي كذلك وسيلة للعيش الشريف والكسب النظيف، وما من موظف إلا وهو مسؤول عن وظيفته ومؤتمن من خلالها على مصلحة من مصالح المسلمين في حياتهم ومجتمعهم.
ولذلك فإن المبدأ الإداري الذي يقول: (إن الرواتب والمزايا للأعمال وليست للأشخاص) والمبدأ الإداري الآخر الذي يقول: (إن الوظيفة العامة تكليف وليست تشريفًا) جاءَا ليؤكّدا هذه الحقيقة، وهي أن هدف الوظيفة العامة الغالب هو خدمة المراجعين من جميع أصناف الناس. وصورة الأداء المطلوبة من الموظف للقيام بعمله تتمثل في جوانب عده منها:
تأدية الموظف لعمله بالدقة والأمانة والنزاهة والإخلاص والعدالة والمساواة، بحيث لا يفرق من حيث العناية والاهتمام بين معاملة وأخرى، وأن ينجز أعماله في الوقت المحدّد، وأن لا يؤخرها من دون أسباب تتعلّق بالمعاملات.
أن يستقبل المراجعين بوجه طلق وبأسلوب جيد، من دون تفرقه بين مراجع وآخر، وسواء كان يعرف المراجع أو لا يعرفه.
لكن مما يؤسف له أنه يوجد بعض الموظفين ممن امتلأ بالعقد النفسية والآفات السلوكية التي تجعله يعَقِّد معاملات المسلمين ومصالحهم؛ مرّة بحجه النظام، ومرة بحجه الانشغال وكثره الأعمال، وليس له هدف من ذلك إلا أن يسعى صاحب الحاجة في توسيط الناس إليه ليقضي حاجته، أو أن يظل صاحب الحاجة يترجاه، فينفخ الشيطان في نفس ذلك المريض من العجب والغرور والكبر، حتى إذا شعر أنه صاحب مكانة ومنزلة أخذ يقضي تلك الحاجة بصلفٍ وغرور مع أنها قد تكون حاجة تافهة.
وبعضهم لا ينظرون في المعاملات الموجودة لديهم بعناية أو إخلاص، بل يمررون المعاملات وبأي طريقة، وإذا لم يحصل أن يتصرفوا في المعاملات بهذه الطريقة فهم يؤخّرونها ومن دون سبب سوى الإهمال والكسل وعدم المبالاة.
أو يستقبلون مراجعيهم بعبوس وأساليب جافة، فعندما يدخل المراجع على أحدهم يأتي إلى ذهنه فورًا كيف يصدّ هذا المراجع وبأيّ طريقة، فبعضهم يطلب من المراجع فورًا أن يقوم بالمراجعة في اليوم التالي من دون سبب، وبعضهم يقول: إن معاملتك ليست من اختصاصيّ قبل أن يقوم بقراءتها، أو: إنها من مسؤولية قسم آخر أو موظفٍ آخر، وبعضهم يطلب من المراجع إحضار بعض الوثائق مع أنها إما أن تكون موجودةً في المعاملة أو يمكنه الحصول عليها من ملفّه.
وبعضهم يستغلّ منصبه في تحقيق مآرب وأهداف شخصية، فتراه يسأل المراجع عن عمله وما هي وظيفته، ومن ثم يطلب منه خدمة في تلك الإدارة، سواء له أو لقريبه أو لشخص آخر يستفيد هو منه في مجال آخر.
ومصيبة المصائب عندما يذهب أحدهم في إجازةٍ ما فيضع معاملات المراجعين في الأدراج ويقفل عليها، فلا هو الذي أنهاها قبل ذهابه إلى الإجازة، ولا هو الذي أعطاها لموظّف آخر من زملائه حتى يقوم بإنهائها بدلاً عنه، والضحية هو المراجع المسكين الذي يضطرّ إلى الانتظار حتى يعود سعادةُ الموظّف المحترم من إجازته الطويلة، وصدق النبي: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) رواه البخاري عن أبي مسعود (5655).
أما الحالة الوحيدة والتي يتجاوب فيها هذا الموظف المعقَّد فهي عندما يكون المراجع امرأة، وخصوصًا إذا كانت شابّة، فعندها لا تسل عن حسن خلقه وتجاوبه وبذله لأقصى ما عنده من جهد في سبيل أن ينهيَ معاملتها بأقصى سرعة، علّهُ يظفر منها بكلمة حلوة أو ابتسامة رقيقة أو الحصول على رقم هاتفها إذا كان لديها الاستعداد أن تقيمَ علاقة معه بطريقةٍ أو بأخرى.
هذا النوع من الموظفين موجود، بل إنه يزيد ويتكاثر عندما يجد الفرصة متاحة له والظروف مواتية. ومما يساعد على تكاثر هذا النوع من الموظفين عدة أمور:
منها: عدم وجود المدير الحازم الذي يتصدّى لأمثال هؤلاء الذين يعطّلون مصالح المسلمين.
ومنها: سلبية المراجعين في التعامل معهم وعدم رفع الأمر إلى من هم أعلى منهم أو للجهات الرقابية التي تستطيع محاسبتهم على تقصيرهم وإهمالهم، ويبدو أن هذا الأمر يحدث بسبب جهل المراجعين بحقوقهم؛ لأنه يُفترض عندما يواجه المراجع تعقيدًا أو إهمالا أو مماطلة من أيّ موظف في أيّ دائرة كانت صغيرة أو كبيرة فإن له الحق في اللجوء إلى هيئة الرقابة والتحقيق أو ديوان المظالم أو المحاكم الشرعية التي تستطيع محاسبة كل مقصر ومعاقبته على إهماله وسوء تعامله مع الناس، ولو بادر كل متضرّر من هؤلاء المراجعين إلى المطالبة بحقوقه عن طريق هذه الجهات الرقابية فلربما حصلوا على حقوقهم بالطرق المشروعة، ولكنه الجهل وعدم المعرفة بكيفية التعامل مع هذه النوعية السيئة من الموظفين.
أيها الأخوة، إن على أمثال هؤلاء الموظفين أن يعلموا أنّ الدولة قد وضعتهم في هذه الوظائف من أجل أن ييسروا على الناس أمورهم، فأين الإحساس بالمسؤولية والأمانة التي في أعناقهم؟!
إن على هؤلاء أن يعلموا أن النبي قد دعا عليهم وعلى أمثالهم من الذين يعسرون على الناس أمورهم، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة زوجَ النبي أسألها عن شيء فقالت: أخبرك بما سمعت من رسول الله يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشّق عليهم فاشقق عليه)) صحيح مسلم (3407)؛ لذا نقول لأمثال هؤلاء: أبشروا بمشقة من عند الله يسلطها عليكم، وقال رسول الله : ((من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)) سنن أبي داود (2948)، وإذا احتجب الله عن العبد فمن ذا الذي يقضي حوائجه؟!
إن على هؤلاء أن يعلموا أن ما هم فيه من مناصب ووظائف فهي زائلة، وأن الكراسي التي يشغلونها قد شغلها من هو أطول منهم عمرًا ومن سبقهم، وقد قيل قديمًا: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك. فليعلموا أنهم غير مخلّدين فيها، وأن لهم يومًا يذهبون عنها ويقفون فيه بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليس مع أحد منهم ولي ولا شفيع، ولا يغني عنه نسبه ولا حسبه، وليس له حينئذٍ إلا ما جنت يداه، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل: 111]، حينئذ يعرضون على الله كما قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]، حينئذٍ يجازون عند الملك الديان بما يستحقون، ولا يمكن حينئذ أن يراعى فيهم حسب ولا نسب ولا منصب، فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر: 48-51].
فهل يفهمون ذلك ويراجعون أنفسهم قبل أن ينزل بهم عقاب الله في الدنيا والآخرة؟! نرجو هذا ونتمناه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|