أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا دينه، والزموا شريعته؛ فهي نجاتكم، وهي وصية الله تعالى لكم، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
أيها الناس، للدين قوة دافعة للتضحية والفداء، وهو من أهم أسباب الإقدام والشجاعة. وللدنيا لذة تدعو للدعة والركون، وهي من أهم أسباب الإحجام والخوف الذي يُنْتِج الذلَّ والهوان؛ ولذا كان الدينيون ينتصرون في حروبهم على الدنيويِّين، سواء كان دينهم حقا أم كان دينا باطلا، والنبي فسر الوهن بأنه حب الدنيا وكراهية الموت.
والتاريخ المقروء والواقع المشهود يدلان على أن الذين يحاربون عن عقيدة يُنصرون على من يقاتلون لأجل الدنيا. ولأهمية ذلك عمدت الجيوش الحديثة إلى ترسيخ ما يسمى بالعقيدة العسكرية والاهتمام بالجوانب المعنوية للجند، واستغلوا الدين في هذا الجانب، مع أن بناء الجيوش الحديثة هو بناء مادي علماني لا يأبه بالدين، وإنما استغلوه لما احتاجوا إليه في رفع معنويات الجند.
وقد أدرك صهاينة أهل الكتاب أهمية الدين في الانتصار وحسم الحروب، فجعلوه متوازيا مع البناء العسكري المادي إن لم يكن متقدما عليه، وتلمذوا أطفالهم في مدارسهم على أساطيرهم، وشحنوهم بالعداوة الدينية على غيرهم، وخصوصا على أمة الإسلام.
إن الفكر العسكري الصهيوني يرتكز في مبادئه القتالية على (العقيدة الدينية اليهودية)؛ حيث إشعال الحروب والعنف والوحشية والبطش والإرهاب والهمجية والغدر ونقض العهود. وترسيخًا لهذا الفكر العسكري بذل المؤرخون العسكريون اليهود غاية جهودهم لإخراج ما أسموه (التاريخ العسكري اليهودي)، وذهبوا يربطون بين معارك اليهود في الماضي السحيق وبين حروب (دولة إسرائيل) في الزمن الحاضر؛ ليقنعوا أنفسهم قبل غيرهم بأنهم أصحاب مهمة مقدسة.
يقول أحد قادتهم العسكريين: "كنا نشعر أننا في جانب الله"، ويضيف: "إن جيشنا ليست مهمته الأساسية حماية الصناعات، وإنما رسالته حماية المقدسات، وعلى هذا الأساس يتدرب ويقاتل"، ويقول الحاخام تسوفي يهوذا: "إن الجيش الإسرائيلي كله مقدس؛ لأنه يمثل حكم شعب الله على أرضه".
ومذابح غزة الأخيرة هي من المذابح المقدسة في دينهم المحرف، جاء في أربعة مواضع من أسفارهم التي حرفها رهبانهم ذكرُ غزة، والتبشيرُ بقتل من فيها من الرجال والنساء والصبيان، ونقلت عدسات التصوير أثناء تدميرهم لغزة صورًا لبعض الجند يرتلون أجزاء من كتبهم تحثهم على تدمير غزة لإرضاء الله تعالى حسب معتقدهم، كما نقلت صورا أخرى لجند يباركون دباباتهم فيقرؤون شيئا من التوراة قُبيل محاولتهم اجتياح غزة.
وأثناء الضرب الجوي الهمجي صدرت فتاوى وبيانات من حاخامات ومجامع دينية تؤيد الضرب بشدة، وتُجيز عدم استثناء أحد من القتل، وتبيح استهداف الأطفال والنساء؛ زاعمين أن قتلهم يرضي الله تعالى عنهم، وكبير حاخاماتهم مردخاي الياهو ـ وهو أكبر مرجعية دينية للحركة الصهيونية الدينية ـ قد ادعى أنه يتوجب عليهم إبادة الفلسطينيين حتى الذين لا يقاتلون المحتلين! وزعم ـ أخزاه الله تعالى ـ أن هذه ليست مجرد فتوى، بل "فريضة من الرب يتوجب على اليهود تنفيذها". وقال الحاخام عوفاديا يوسف: "إن الله ندم ندمًا شديدًا بعدما خلق العرب المسلمين، وتمنى لو أنه لم يخلقهم؛ ولهذا فإن القضاء عليهم أمر يسرُّ الرب"، تعالى الله عن إفكهم وكذبهم علوا كبيرا.
وأثناء قصف غزة وتدميرها خرج حاخام فلوريدا إيلي لازير على شاشات التلفزة فرحا يذكر أن تدمير غزة تدعو إليه كتبهم، وهو من فرائض شريعتهم. وآخر منهم يُدعى ليبرمان، أفتى بوجوب تدمير غزة بالقنابل النووية. وأظهر استطلاع للرأي الشعبي اليهودي في إسرائيل أن تسعة من كل عشرة يهود يؤيدون المجازر الإسرائيلية ضد الأطفال والنساء والشيوخ في غزة.
وهناك عشرات الدراسات الجادة للمناهج اليهودية في شتى مراحل التعليم من الروضة إلى التعليم العالي، وفي مدارس دينية وغير دينية، قام بها عرب وعجم، ويهود وغير يهود، تصل إلى نتيجة واحدة هي: أن عقيدة القتل والتدمير للناس عامة وللمسلمين خاصة هي الفريضة الأهم التي يخرج بها دارس هذه المناهج، وهي تغذي أحقادها بمئات النصوص والقصص من التوراة والتلمود والأسفار اليهودية، في الوقت الذي يخدعنا فيه دعاة السلام وأرباب العجز والاستسلام، ويخدرون الأمة بالوعود الخيالية الكاذبة بتعايش سلمي وإخاء حميم بين الإيمان والكفر وبين الحق والباطل؛ ليسلِّموا رقاب المسلمين وبلدانهم لقتلة أنبياء الله تعالى عليهم السلام، ويريدون تجريد هذه الأمة من قوتها الدينية الدافعة للتضحية والفداء التي هي سبب العزة والكرامة وحفظ الدين والدنيا؛ وذلك بإفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم وإذابة الولاء والبراء وتحويل العباد من عبوديتهم لله تعالى إلى عبادة الشهوات، حتى طالبوا بترك آيات الكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
إن الصهاينة اليهود قد هزموا بعقائدهم الخرافية هذه جموعا من الجيوش العربية يوم أنْ ركن العرب إلى عرقهم، وفاخروا بعصبيتهم، ونسوا ربهم، وطرحوا دينهم؛ لأن اليهود كانوا يعتزون بدينهم المحرف، ويقاتلون عن عقيدة، فهزموا من كانوا يقاتلون عن عصبية عرقية.
وإذا تقابل أهل العقيدة الصحيحة مع غيرهم وانتخى أهل الإسلام بإسلامهم غلبوا غيرهم وهزموهم بإذن الله تعالى، كما وقع لابن تاشفين مع كاثوليك الأندلس، ولصلاح الدين مع الصليبيين، ولقطز مع التتر، ولمحمدٍ الفاتح مع البيزنطيين، ووقع في التاريخ المعاصر في كثير من ديار أهل الإسلام التي احتلت واستعمرت، ورفع فيها المقاومون للاحتلال راية الحق في قتالهم لأعدائهم، فطردوا الإنجليز والفرنسيين والطليان وغيرهم من مصر والهند والشام وبلاد المغرب العربي، وكسر الأفغان الروس، وهزم أهل الصومال الأثيوبيين، ودوَّخ العراقيون والأفغان صهاينة النصارى، وكانت آخر ملاحم أهل الحق والهدى ملحمة غزة الباسلة التي انتهت بنصر مؤزر وإن رغمت أنوف الكافرين والمنافقين والكارهين، ثبت فيها رجالهم ونساؤهم وأطفالهم بتثبيت الله تعالى لهم، ونُقلت صور من البطولات تُذَكِّر بأمجاد أهل الإسلام السالفة، ووصف أحد الغزيين ثبات نسائهم فقال: إن من أحد أسباب صمودنا في غزة نساءنا، فإحداهن قدمت ثلاثة من خيرة أبنائها ثم قالت: بل كل أبنائي سيكونون شهداء في سبيل الله تعالى، وأحضروا أحدهم مضرجا بدمائه بين يديها فخاطبته قائلة: يا بني، والله إنك لعزيز على قلبي، ولكن الله تعالى أعز منك، ثم يقول ناقل كلامها: مثل هذه المرأة شدَّت من أزرنا، وألهبت مشاعرنا، وأثارت الحمية الدينية في قلوبنا... ثم يتحدث عن ولد أصيب رأسُه في أول القصف، فلما تماثل للشفاء قالت له أمه: لقد أعددناك لحرب أكبر مما مر بك، يقول: فماذا سأقول أنا من بعدها؟! وماذا سيقول الرجال وقد وقف نساؤهم هذه المواقف البطولية في هذه الحرب؟!
فجزى الله تعالى هؤلاء النسوة خير الجزاء، وعوضهن عما فقدوا من فلذات أكبادهن خيرا مما فقدوا، وتقبل قتلاهن في الشهداء، إنه سميع مجيب.
وأقول ما تسمعون...
|