أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم؛ فلا عزَّ في الدنيا ولا فلاحَ في الآخرة إلا في طاعة ربكم سبحانه وتعالى وتقواه، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ [النور: 52].
أيها الناس، لم يكن العرب في جاهليتهم أهل سيادة ولا سياسة، ولا يعرفون النظم والإدارة، بل كانوا قبائل متفرقة وأوزاعًا مشتتة، يتبع الفرسَ منهم جيرانُ فارس، وجيرانُ الرومان تبع للروم، ومن كانوا وسط جزيرة العرب بعيدين عن هاتين الدولتين العظميَين لم يكن لفارس ولا للروم فيهم مطمع، وحاول بعض العرب تقليد الفرس والروم في إنشاء ممالك وتسموا بالملوك، ولكنها كانت ممالك صغيرة لم تتجاوز أرضهم التي يقطنونها، ولا قبائلهم التي ينتسبون إليها. بل كان العرب في جاهليتهم عاجزين عن رد عدوان الأعداء عليهم أو الانتصار منهم، ولما غزا أبرهة الكعبة يريد هدمها ـ وهي أقدس شيء عند العرب آنذاك وأثمنه وأهمه ـ فرَّت قريش في الجبال هربا منه، وقال عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه.
فلما جاء الله تعالى بالإسلام تغير الحال، وأصبحت الأمة المستضامة المستباحة أمنع أمم الأرض وأعزها وأقواها، وما ذاك إلا ببركة الإسلام وعزه وعلوه، وحققت هذه الأمة من التوسع والفتوح في ثمانين عاما ما عجزت عن تحقيقه الأمّة الرومانية في ثمانمائة عام.
ولأجل ذلك حُسِد المسلمون على نبيهم وكتابهم ودينهم الذي رفعهم هذه الرفعة، وبوأهم تلك المنزلة، كما حُسدوا على فتوحهم وتاريخهم الذي يطفح بالعدل وينضح بالرحمة، وتجذَّر العداء لأمة الإجابة في قلوب أهل البغي والاستكبار من الأمم الوثنية والكتابية والباطنية النفاقية، لا يعادونهم لشيء كما يعادونهم لدينهم، ولا يحاربونهم على أمر مثلما يحاربونهم على إسلامهم.
والتاريخ مملوء بالشواهد والحوادث التي تشهد لأمة الإسلام بالدعوة إلى الحق ورحمة الخلق، وبسط العدل ورفع الظلم، كما تشهد أن أعداء الإسلام لا يتمكنون من المسلمين إلا نكلوا بهم وعذبوهم أشد العذاب، والأمة الكتابية هي أشد الأمم على الإسلام والمسلمين كما نطق بذلك تاريخ طويل من الدماء التي سفكت على الدين.
ومن نظر إلى مذابح اليوم التي يفعلها الصهاينة في غزة وجد أنها تكرار لما فعله الصليبيون قبل ألف عام من الآن، لا زالت الأحقاد هي الأحقاد، والعداء هو العداء، فيا ليت أمتي تدرك ذلك!
قبل ما يقرب من ألف عام من الآن سارت الأمة النصرانية بجحافلها من أوربا تقصد بيت المقدس، فلما بلغوها فعلوا بأهلها ما لا قدرة لأحد على وصفه، وحضر هذه الحادثة مؤرخون صليبيون شاركوا في المذابح، ودونوا بعض ما شاهدوا، وأنا أنقل لكم بعضا مما ذكروا:
كتب المؤرخ الصليبي فوشيه الشارتري فقال: "ولو أنك كنت موجودًا هناك لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقول؟ لم نترك منهم أحدًا على قيد الحياة، ولم ينج حتى النساء والأطفال" اهـ كلامه. وفي غزة الآن مشاهد مشابهة ومناظر مروعة لنساء وأطفال وشيوخ وعجائز يقتلون بالجملة، ويقطعون أوصالا، ويحرقون بالقنابل التقليدية والعنقودية والفسفورية وغيرها، ويستجدون ولا منجد لهم إلا الله تعالى.
وقال المؤرخ الصليبي ريموند الأجويلري يصف ما شاهد: "بدأ رجالنا يدخلون إلى القدس بجسارة وإقدام، وقد أراقوا من الدماء في ذلك اليوم كمية لا يمكن تخيلها"، وقال: "ما إن استولى رجالنا على السور والأبراج... أطاحوا برؤوس أعدائهم، بينما رشقهم البعض الآخر بالسهام، بحيث سقطوا من الأبراج، على حين عذبهم البعض فترة طويلة بأن قذفوهم في النار أحياء، وكانت أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل تسترعي النظر في شوارع المدينة، وكان المرءُ يشق طريقه بصعوبة بين جثث الرجال والخيول، ولكن هذه كانت أمورًا صغيرة إذا قورنت بما جرى في معبد سليمان... ترى ما الذي حدث هناك؟! إذا ذكرت الحقيقة فإنها ستتعدى قدرتكم على التصديق؛ ولذا يكفي أن أقول: إنه في معبد سليمان كان الرجالُ يخوضون في الدماء حتى ركبهم وحزام ركابهم".
وذكر المؤرخ ميشو أن المسلمين كانوا يذبحون ذبح النعاج في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكانًا آمنًا يلوذون به. اهـ. وها هو التاريخ يتجدد، فأهل غزة الآن لا يجدون مكانا آمنا يلوذون به، فالمدارس والمستشفيات ومقرات الإغاثة وأماكن الإخلاء باتت هدفا لطائرات الصهاينة وقذائفهم.
ونقل المؤرخ الصليبي وليم الصوري عن بني قومه أن بيتَ المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغزاة واشمئزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرضُ مغطاةً بدماء القتلى.اهـ. وفي هذه الأيام تنقل عدسات المصورين مشاهد من غزة لرؤوس مقطعة وأشلاء ممزقة ودماء مسفوكة وأجساد محروقة وأسر كاملة تحت ركام البنايات المهدمة.
ونقل المؤرخ الأمريكي ديورانت عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: "إن النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد". وهاهو التاريخ يتجدد، فأطفال غزة تهشم القنابل رؤوسهم، وتخترق أجسادهم الغضة لتمزقها، وتحرق جلودهم، وتشوي لحومهم، وتهيل البناء عليهم. يا له من عداء متأصل تواطأ فيه اليهود التوراتيون مع الأصوليين الإنجيليين، وأعانهم عليه المنافقون والظالمون.
لقد اختصر الصليبيون آنذاك وصف مذابحهم العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا يخبرونه بما فعلوا قائلين له: "إذا ما أردت أن تعلم ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة فثق أنه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفقة إلى ركبتيها".
والصهاينة التوراتيون منذ أن تمكنوا في بيت المقدس قبل زهاء ستين سنة وهم يكررون المذابح بين حين وآخر، بدعم وتأييد من الدول النصرانية، وفعلوا فيما سمي بالنكبة ما لا يوصف من المذابح والجرائم، جاء بعض وصفها في عشرات الدراسات والمذكرات التي كتبها قادة وجنود صهاينة شاركوا فيها، ثم دونوها بعد أن أنهوا خدمتهم العسكرية.
ومضى تسعة عشر عاما على ما سمي بالنكبة ليستولي اليهود على القدس وما حولها فيما عرف بالنكسة، وفعلوا من الجرائم والمذابح ما لا يوصف، وهي مدونة أيضا.
وبين النكبة والنكسة افتعلوا مئات الحوادث من القتل والترويع والتعذيب والاستفزاز لأهل الأرض المحتلة.
ومذبحة غزة التي نعيش فصولها الآن هي أكبر مذبحة في داخل فلسطين بعد النكسة التي كانت قبل ثنتين وأربعين سنة، وسيحفظ التاريخ صورها كما حفظ غيرها، وسيذكر تخاذل المسلمين وهوانهم وعجزهم عن نصرة إخوانهم كما ذكر هوان من كانوا قبلهم، ومن هان دينه في قلبه هان على الله تعالى، ومن هان على الله تعالى هان على الخلق، وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|