أمّا بعد، فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله جلّ وعلا، فبتقواه تُفلِحوا تسعَدوا في الدنيا وفي الآخرة.
إخوةَ الإسلام، أخطرُ المعاصِي وأشدُّ الذنوب القولُ على الله جلّ وعلا بغيرِ علمٍ وبيان والخوضُ في الشريعةِ بغير حُجَّة ولا بُرهان، فربُّنا جلّ وعلا يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون [الأعراف: 33].
معاشرَ المسلمين، التّصدُّر للفتوَى أمرٌ عظيمٌ وشأنٌ كَبير، لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلاَّ لمن كان ذا عِلمٍ ضَليعٍ وعقلٍ سَديد، جثَا بالرُّكَب أمامَ العلَماءِ الربانيِّين، وسَهرَ الليالي لتحصيل أدلةّ الوحيَين والتبصُّرِ بقواعد ومقاصد الدين.
وعلى هذا المنهجِ تربّى السلَف الصالحون، وتواصى عليه العلماءُ الربانيون، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: (أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟!)، ويقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: "أدركتُ عشرين ومائةً من أصحابِ رسول الله ، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".
الفتوى مجالٌ عظيمُ الخطر كبيرُ القدر، فلا بدّ من إحكامِ قواعدِها الشرعيّة وضوابطها الدينيّة، خاصةً في نوازل الأمّةِ وأيّام الفتن، قال سبحانه: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون [النحل: 116]، ورسولُنا يقول: ((من قال عَليَّ ما لم أقُل فليَتبوَّأ بيتًا مِن جهنّم، ومن أُفتِيَ بغيرِ علمٍ كان إثمُه علَى مَن أفتاه)) متفق عليه. يقول سُحنون بن سعيد رحمه الله: "أجرَأ الناسِ على الفُتيا أقلُّهم علمًا".
إخوةَ الإيمان، منصبُ الفتوى ممّا لا يُستفاد بتصدير الآخرين للشّخص، وإنما مَدارُه على العِلم الحقيقيّ والدراية التامّة بنصوص الوحيَين وأقوال العلماء السابقين ومقاصد الشّريعة وأهدافها العظيمة. وإن الويلاتِ لتنزل والمصائب تحُلّ حينما يتصدَّر من فيه جِراءةٌ على الفتوَى بغير بحثٍ عميق ولا علمٍ دقيق ودرايةٍ وافية، فرسولنا يقول: ((إنَّ الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتَزعه من النّاس، ولكن يقبِض العلم بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهَّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا)).
معاشرَ العلَماء، احذَروا من السّقَطات، وتذكَّروا العرضَ على بارئ الأرض والسّماوات، ولنتذكَّر قول الخطيبِ البغداديّ رحمه الله: "قلَّ من حَرص على الفتوى وسابق إليها وثابَر عليها إلاَّ قلَّ توفيقه، واضطرب في أمرِه، وإذا كان كارهًا لذلك غيرَ مختارٍ له وما وجَد مندوحةً عنه ولم يقدِر أن يُحيل الأمرَ فيه على غيره كانتِ المعونةُ له من الله أكبر، والصّلاحُ في فتاويه وجوابِه أغلَب" انتهى.
يا من يُطالِع العالَم بالفضائيات والشبكات فما سأله أحدٌ إلا وجدتَه مُتصدِّرًا للفُتيا مسَارعًا، تذكَّروا أنكم ستقفون أمامَ ربِّ العالمين، فاحذَروا من التسرُّعِ في الفتوى، وتجنَّبوا تعجُّل القولِ في كلّ صغيرة وكبيرة، وفي كل شأن. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الذي يُفتي الناسَ في كلِّ ما يسألونه لمجنون).
تذكَّروا منهجَ السلفِ الصالحين وأقوالَ العلماء العامِلين، قال عليٌّ رضي الله عنه: (وا بَردها على كبدي ـ ثلاث مرات ـ، أن تسألَ الرجلَ عمّا لا يعلم، فيقول: الله أعلم)، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا غفل العالم عن لا أدري أُصيبَت مقاتِلُه)، وعن عقبةَ بن مسلم قال: صحبتُ ابن عمر رضي الله عنه أربعةً وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأَل فيقول: لا أدري، ثم يلتَفتُ إليَّ فيقول: تَدري ما يريدُ هؤلاء؟! يريدون أن يجعلوا ظهورَنا جِسرًا إلى جهنّم.
وأقوالُ التابعين في ذلك مشهورةٌ متواتِرة، قال أبو حصين: "إنَّ أحدَكم ليُفتي في المسألة ولو ورَدت على عمَرَ لجمع لها أهل بدر"، وقال أبو عثمان الحدَّاد: "مَن تأنَّى وتثبَّت تهيَّأ له من الصّواب ما لا يتهيَّأ لصاحب البديهة"، ومكَث سُحنون متحيِّرًا في فتوى ثلاثةَ أيام، ولما قيل له قال: مسألةٌ معضِلة، قال المُستفتي: أنتَ لكلّ مُعضِلة، قال: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذُلُ لك لحمي ودمي إلى النار.
معاشرَ المسلمين، ومع هذا فقد ظهَر من الكُتَّاب والمُثقَّفين في إعلامِ المسلمين ـ وللأسف ـ من نصَّب نفسه مُفتيًا في علوم الدين والإفتاء بما يخالفُ قواعدَ الدين؛ مثل تلك الدّعوات التي تدعو لبدعةِ المولدِ النبويّ، وأنها لا بأسَ بها، مع تقرُّر أقوال العلماء في أنها بدعةٌ ما أنزل الله بها مِن سلطان، ومثل الدعاوى التي تتضمَّن تحريرَ المرأة المسلِمة من حِجابها وعِفَّتها، وغيرها من الدّعوات التي تُخالف ثوابتَ الدين وقواطعَ الوحيَين.
فلنحذر كلَّ الحذَر ـ أيها المسلمون ـ مِن مثل هذه الكتابات السّخيفة والأقوال الممزوجة، وقديمًا قال ربيعة شيخ مالك: "وبعضُ من يُفتي هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق".
معاشرَ العلماء، تذكّروا منهجَ الصحابة والتابعين، وأنَّ الفتوى تتطلَّب تَصوُّرًا صَحيحًا للمسألة النازِلة، تصوُّرًا يحيط بجوانِبها، ويَكشِف مُلابساتها، ويَتعمَّق في ظاهِرها وباطنِها، مع تنزيلِ ذلك على الأدلّةِ الشرعية الصّحيحة والقواعِد القرآنيّة العامّة والنصوص النبويّة، وفقَ تقوى للربّ جلّ وعلا وصحّة فهمٍ وحسن قصد وتحرٍّ للحقّ، ووفقَ منهجيّة سليمةٍ في إحكام قواعدِ الاستدلال وضوابطِ النظَر التي سطَّرها العلماء وقرَّروها.
وليتذكَّر من ابتُلِي بالفتوَى وجوبَ التثبُّت والتأنِّي، ومراعاة المشورة وتقليب أوجه النظر، وعدم التسرُّع والتعجُّل، فبذلك يقع المُفتي في الزّلل، ويُجانبُ الصواب، كما نرى ذلك في أرض الواقع. قال مالك: "العجلة في الفتوى نوعٌ من الجهل والخَرَق"، وقال ابن القيم: "وكان السّلَف من الصحابة والتابعين يكرَهون التسرُّع في الفتوى"، ورسولنا يقول: ((أشدُّ ما أتخوَّف على أمتي ثلاثة: زلَّة عالم ـ وهذا إنما يحصل بالفتوى ـ، وجدل منافق بالقرآن، ودُنيا تقطع رقابكم، فاتهموها على أنفسكم))، وصحَّ عن عمرَ أنه قال: (يهدِمُ الإسلامَ زلّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المُضلّين).
معاشرَ العلماء، ولنتذكَّر أنّ أعظمَ الضماناتِ لصحّة الفتوى واستقامتِها على طريقةِ الشريعةِ الإسلامية الحرصُ على مراعاةِ التورُّع عن الفتوَى ما أمكَن، قال عطاء رحمه الله: "أدركتُ أقوامًا إن كان أحدُهم ليُسأَل عن الشيءِ فيتكلَّم وإنّه ليرعُد"، وكان ابنُ المسيّب لا يكاد يُفتي إلا قال: اللهم سلِّمني وسلِّم مني، وقال سفيان الثوري: "أعلمُ الناس بالفُتيا أسكتُهم عنها، وأجهلُهم بها أنطقُهم"، وقال مالك رحمة الله على الجميع: "ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون من أهل المدينة أني أهلٌ لذلك"، ثم قال: "أدركتُ أهلَ العلم والفقه ببلدنا إذا سُئِل كأن الموتَ أشرفَ عليه"، ويقول أيضًا لمن سأله: "ويحك! تريد أن تجعلني حُجَّة بينك وبين الله، فأحتاج أنا أولاً أن أنظرَ كيف خلاصي، ثم أُخلِّصُك"، ويقول الشافعي رحمه الله: "ما رأيتُ أحدًا جمع الله جلّ وعلا فيه من آلة الفُتيا ما جمع في ابنِ عيينة أَسكَتَ منه على الفُتيا"، وعن سُحنون أنه قال يومًا: "إنا لله، ما أشقى المُفتي والحاكم!"، ثم قال: "ها أنا ذا؛ يُتعلَّمُ مني ما تُضرَب به الرقاب، وتُوطَأ به الفُروج، وتُؤخَذ به الحقوق، أما كنتُ عن هذا غنيًّا؟!".
ومع هذا ـ أيها الناس ـ فلا بدّ للناس ممن يجيبهم في مسائلِ دينهم، ويُبيِّن لهم أحكامَ ربِّهم، ولكن هذا يجب أن لا يقومَ به إلا العلماء المُؤَهَّلون الذين بلغوا في العلمِ أعمَقَه، وفي العقل أرجحه، وفي الحكمةِ أتمَّها، وفي التروِّي أشدَّه، وفي الخبرة أعظمَها.
معاشرَ طلبةِ العلم، احرِصوا على مراعاةِ مقاصد الشريعة في الفتاوى، فلا يبلغُ طالبُ العلم درجةَ الاجتهاد حتى يتمكَّن من ذَلك، كمَا قال الشاطبي فإنه قال: "لا يتمكَّن طالب العلم من الاجتهاد حقَّ الاجتهادِ حتى يفهم هذه المقاصِدَ على كمالها، ثم يتمكَّن من الاستنباطِ بناءً على الفهم فيها"؛ ولهذا فمن الخطأ الإفتاء بالأدلة الجزئية دونَ ربطها بالكليات العامّة للتشريع والمقاصد العامة للشريعة، يقول الشاطبي أيضًا: "فزلَّة العالمِ أكثرُ ما تكون عند الغفلةِ عن اعتبارِ مقاصدِ الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهَد فيه" انتهى.
ولهذا ـ أيها المسلمون ـ ما يقع الاضطراب والتخبُّط في الفتاوى إلاَّ حينما تصدُر الفتاوَى بمنأى عن هذا المنهَج، ذلكم أنَّ القواعد الكبرى والمقاصدَ العامّة أساسٌ لإنضاج الاجتهاد وتقويمه، وأساسٌ لتوسيعه وتمكينه من استيعاب نوازلِ الحياةِ بكل تقلُّباتها وتشعُّباتها، ولكن الشأن: أينَ العلماء الربانيون؟!
ولنعلم أنَّ الواجب حملُ الناس على المعهود الوسَط، فلا يُذهَب بالناس مذهبَ الشدّة، ولا يُمال بهم إلى درجةِ الانحلالِ والرُّخَص التي تخالف صريحَ القرآن والسنة.
وإنّ مما يجب أن يُراعَى في الفتاوى النظرَ في مآلات الفتاوى، وأن يُقدِّر العالمُ عواقبَ فتواه، وما يترتَّب عليها في الحاضر والمستقبل، يقول ابن القيم رحمه الله في كلامٍ بديع: "فإذا كان في المسألةِ نصٌّ أو إجماعٌ فعليه تبليغه بحسَب الإمكان، فمن سُئِل عن عِلمٍ فكتمَه ألجمَه الله يومَ القيامة بلِجامٍ من نار، هذا إذا أَمِن المُفتي غائلةَ الفتوى، فإن لم يأمَن من غائِلتها وخافَ مِن ترتُّب شرٍّ أكبر أمسَك عنها ترجيحًا لدَفع أعلَى المفسدَتين باحتمال أدناهما"، إلى أن قال: "وكذلك إذا كان عقلُ السائل لا يحتمل الجواب لما سأل عنه، وخاف المسؤول أن يكونَ فتنة له أمسَك عن جوابه" انتهى.
كما أنّ الواجب الحذرُ من الوقوعِ في الزلَل بالفتاوى أيّام الفتن والمحن، فقد حَذَّر من ذلك العلماء، فمن قواعِدهم التي بَرهَنوا عليها في نصوصِ الوحيين ومنهَج الصحابة قولهم: "مما لا يُطلَب نشرُه ـ أي: من العلماء والمُفتين ـ ما يُؤدِّي إعلانُه إلى مَفسدةٍ أو ضَررٍ أو إثارَةِ فتنة أو غوغاء، أو ما يُؤدِّي إلى تأثيرٍ بالمنهج العامّ للأمّة، أو يُؤدِّي إلى الحيرة والفسادِ في دنيا الناس ودينهم"، ومثَّلوا لذلك بالأقوالِ الشاذّة والخلافاتِ الضعيفة واستجلاب الرُّخَص المخالفة للنصوص.
ألا فليحذر شبابُنا من فتاوَى لا مصدَر لها، أو من فتاوى لا يتبنَّاها علماءُ الأمّة، ولا تجتمع عليها كلِمتُهم، خاصّة في المسائلِ العامّة والنوازل التي تنزل بالأمّة الإسلاميّة اليوم. كما أنّ الواجب على المسلمين الحذر من الفتاوى التي تتقمَّص الرُّخَص، خاصةً ما يقَع اليومَ في المعاملاتِ الاقتصادية من فتَاوى مبناها على مجرّد دعوى التيسير، ومع هذا تُبنى على بعضِ القواعدِ الفقهيّة عند الفقهاء التي هي مجرّد اجتهادات يُحتجُّ لها ولا يُحتجُّ بها، وقديمًا قال العلماء المُحقِّقون: "القاعدة الفقهيّة التي تُؤخَذ من أقوال الفقهاء ليست حُجَّةً بنفسها، وإنما الحُجَّة في الدليل الشرعي".
أيّها المُفتون، احرِصوا على وضوحِ العبارةِ في الفتوَى، وأن لا تحملَ عبارة غامِضة، ولا مصطلحًا غريبًا، ولا كلامًا مُجملاً لا يحصل به المقصود، أو تختلف فيه الأنظار والأفهام، وحينئذٍ الضحية من؟ هو المجتمع. فمن مُقرَّرات العلماء عدمُ جواز الإفتاء بما يُحيِّر السائلَ ويُلقيه في الإشكال، بل لا بدّ من بيان مُتضمِّن لفصل الخطاب، كافٍ في حصولِ المقصودِ.
ثمّ لا بد من الانبساط للناس، ورحابة الصدر لهم، وتحمُّل سماع مسائلهم ومشاكلهم بطيب نفسٍ وسعة بالٍ، ففي الحديث عن النبيِّ : ((أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعهم للناس)).
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيه من البيانِ، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|