أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله تعالى حق تقاته، واستمسكوا بعرى الطاعة، واستعيذوا بالله من شرّ المعصية، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33].
ثم إنكم تعلمون ـ معاشر المؤمنين ـ بأنه في هذا الأسبوع كان ما يسمَّى باليوم العالمي للمرأة، وهو اليوم الذي يحتفل فيه العالم بالمرأة والتأكيد على ما يزعمونه حقوقا لها، وبعد أيام كذلك سيحتفل العالم بما يسمونه اليوم العالمي للأمّ، أمّا نحن ـ معاشر المسلمين ـ فإنه يكفينا ما جاء من ربنا تبارك وتعالى الذي أمر بأداء الحقوق إلى أهلها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58].
عباد الله، وحتى نستقصي مكانة المرأة في الإسلام فلنعرج على قيمتها عند الحضارات القديمة المتنوعة التي ضربت أطنابها عراقة وقوة؛ لنعلم حقيقة العدل الذي جاء به ديننا الحنيف:
ففي الحضارة اليونانية كانت المرأة لا تسهم في الحياة العامة لا بقليل ولا بكثير، وكانت محتقَرة حتى سموها رجسًا، وكانت مستعبدة تباع وتشترى مسلوبة الإرادة والحرية، لا تستطيع التصرف بما تملك، وعندما بدت مظاهر الحضارة اليونانية ابتذلت المرأة واختلطت بالرجال في الأندية والمجتمعات، فانتشر الفساد وعمَّت المنكرات.
وفي الحضارة الرومانية كان نظام السلطة الأبويّ عند الرومان صارمًا، لذلك كانت السلطة بيد الأب وحده وهي سلطة مطلقة، يتحرّر منها الذكور عند موت الأب، أمّا المرأة فتكون تحت سلطة الأخ أو الزوج، وتبقى محرومة من جميع الحقوق.
وفي الحضارة الهندية لم يكن للمرأة حقّ في الاستقلال عن أبيها أو أخيها أو زوجها، ولم يكن لها حق الحياة بعد وفاة زوجها، بل يجب أن تموتَ يوم موته وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد، وكانت تقدَّم قربانًا للآلهة لترضى، ولكثرة احتقارهم لها فقد جاء في شرائعهم: "ليس الصبر المقدّر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار أسوأ من المرأة".
إخوة الإسلام، والمرأة عند اليهود في مرتبة الخادم؛ محرومة من الميراث، وإذا ملكته لعدم وجود إخوة لها يحرم عليها الزواج من عائلة غريبة، وهي عندهم لعنة لأنها أغوت آدم فأخرجته من الجنة، وكانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها وهجروها، فقد جاء عندهم في التوراة: "المرأة أمرّ من الموت، إنّ الصالح أمام الله من ينجو منها".
وعند النصارى فقد هال رجال الدين النصارى ما آل إليه المجتمع الروماني من انحلال أخلاقي شنيع، فاعتبروا المرأة مسؤولة عن هذا كلّه، وقد كان القانون الإنجليزي يبيح للرجل أن يبيع زوجته، ولما قامت الثورة الفرنسية وأعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة لم تشمل المرأة.
وعند العرب كانت المرأة مهضومةَ الحقوق لا ميراثَ لها، وليس لها أي حق على زوجها، فهو يطلقها متى يشاء ويتزوج من غيرها بلا حدود، وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون من ولادة الأنثى، حتى وصل الأمر بهم إلى وأد البنات وهن أحياء خشية الفقر والعار.
ثم جاء الإسلام الذي هو دين الله تعالى الذي ارتضاه للناس كلّهم، وحمى به جميع الحقوق حتى حقوق الحيوان، وصانها ومنع من انتهاكها، وحرم تجاوز الحدود وحرّم الظلم، جاء هذا الدين بالكرامة للإنسان عامة وللمرأة خاصة، ومن أهم الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة والتي سلبت منها عبر العصور السابقة:
1- حق الحياة: فقد حرم الله عز وجل وأدها كما كان يصنع بها العرب في الجاهلية، فقال عز وجل: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. وأنكر على من يتشاءمون لولادتها فقال الله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
2- حق الملكية والتصرف بأموالها: لقد أعطى الإسلام للمرأة حق ملكية الميراث، فقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ. وأعطاها أيضًا حقَّ التصرف بأموالها، فلها أن تبيع وتشتري وتتصدق من أموالها كما تشاء، فهي كاملة الأهلية، وإذا كانت تعمل فهي تستطيع أن تتصرّف بمالها وتنفق منه بالطريقة التي تريد وفق الأحكام الشرعية.
3- حقّ الموافقة على الخاطب أو رفضه: فالمرأة كالرجل؛ لها حق اختيار الزوج المؤمن الصالح، ولا يجوز إجبارها على الاقتران برجل لا تريده، فقد قال رسول الله : ((الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صمتها)) رواه مسلم، وقال : ((لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر))، فقيل له: إن البكر تستحي، فقال: ((إذنها صمتها)) رواه البخاري، وقد جاءت الخنساء بنت خدام فأخبرت الرسول بأن أباها زوجها وهي ثيّب فكرهت ذلك فردّ نكاحه. رواه البخاري.
4- حق العلم والتعلّم: سواء أكان العلم في المسجد كما كان في زمن الرسول ، أو في المدارس والجامعات كما هو في وقتنا الحالي، فقد قال الرسول : ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها فله أجران)) رواه البخاري، وقد كان الرسول يجعل للنساء يومًا ليعظهن ويذكرهن ويأمرهن بطاعة الله تعالى.
5- حق مفارقة الزوج: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي فقالت: يا رسول الله، ما أنقِم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله : ((فتردين عليه حديقته؟)) فقالت: نعم، فردت عليه حديقته وأمره ففارقها. رواه البخاري.
وإلى جانب هذه الحقوق فقد قرّر الإسلام أن المرأة والرجل خلِقا من أصل واحد، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ان اللَّهَ كَان عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.
ثم إن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في التكليف، فقال عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانوا يَعْمَلُونَ.
وقد أكرم الله تعالى المرأة بنتًا وأمًا وزوجةً، فقال في كتابه العزيز عن حق الأم: وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأن أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وقال الرسول : ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) رواه مسلم، وقال أيضًا: ((استوصوا بالنساء خيرًا)) رواه البخاري ومسلم.
أما تكريمها بنتًا فقد قال رسول الله : ((من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار)) رواه البخاري ومسلم.
لقد اتصفت المرأة المسلمة في صدر الإسلام بجملة من الصفات أهلتها لتشارك بفاعلية في الحياة العامة، فقد كان لها من قوة الشخصية والقدرة العقلية وفصاحة اللسان وحسن الفهم والبيان والقدرة على الصبر والثبات ما جعل الرسول يحثّ على تكريمها ورفع شأنها وإعطائها المكانة التي تليق بها في المجتمع، فها هو معلم البشرية الأول عليه الصلاة والسلام يعلّم زوجاته بنفسه، فقد مرّ على زوجته جويرية بنت الحارث وقد كانت عابدة قانتة لله تعالى فقال لها: ((ألا أعلمك كلمات تقولينهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) رواه مسلم.
ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها فقيهة محدّثة، وتنظم الشعر أيضًا, ويروي الشعبي فيقول: قيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، هذا القرآن تلقّيته عن رسول الله وكذلك الحلال والحرام، وهذا الشعر والنسب والأخبار سمعتِها عن أبيك وغيره، فما بال الطبّ؟! قالت: كانت الوفود تأتي رسولَ فلا يزال الرجل يشكو علّته فيسأل عن دوائها فيخبره بذلك، فحفظت ما كان يصفه وفهمته. وقال أبو موسى الأشعري : (ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديثٌ قطّ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا) رواه الترمذي. وقد بلغ مسندها ألفين ومائتين وعشرة أحاديث, وقال الزهري: "لو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علمًا" رواه الحاكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وأستغفر الله لي ولكم، وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه كان غفارا.
|