أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس، اجتماعُ كلمة المسلمين وتآلفُ قلوبهم وتعاونُهم على البر والتقوى وتناهيهم عن الإثم والعدوان وتواصيهم بالحق فرائض ربانية وواجبات دينية، دعت إليها نصوص الكتاب والسنة، وحذرت من ضدها.
إن الإيمان قد جمع كلمة المسلمين على الحق كما لم تجمعهم رابطة النسب أو التراب أو القبيلة أو اللسان؛ إذ كان العرب في جاهليتهم قبائل متناحرة وعشائر متقاتلة، قد تنافرت قلوبهم، وتباعدت آراؤهم، وكانوا بسبب ذلك أذلة مستضامين، تابعين للأمتين الرومانية والفارسية.
لكن الله تعالى جمع قلوبهم بالإسلام، وألف بينها بالإيمان، وتلك نعمة عظيمة امتن الله تعالى بها على نبيه محمد : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]، وامتن بها عز وجل على عباده المؤمنين: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103].
وجاءت شرائع الله تعالى في العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك لتكرّس وحدة المسلمين، وتؤلّف بين قلوبهم، وتجمع شملهم، وتزيل كلّ ما يكون سببا في الشقاق والاختلاف؛ انطلاقا من قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]؛ فنجد في التشريع أن قبلة المسلمين واحدة، وصلاتهم واحدة، يصطفون فيها لرب واحد، ويسوّون صفوفهم إعلاما باستقامة قلوب بعضهم على بعض: ((والله لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أو لَيُخَالِفَنَّ الله بين قُلُوبِكُ)) رواه أبو داود. يصومون جميعا، ويفطرون جميعا، لا يسبق بعضهم وبعضا. أعيادهم واحدة، ومناسكهم في الحجّ واحدة. وأما الزكاة والصدقة فمن أغنيائهم إلى فقرائهم؛ لتتوثّق أخوتهم، ولكيلا يفرق المال بينهم.
وفي المعاملات ندبهم الإسلام إلى الصدق والأمانة، والسماحة في البيع والشراء، وإنظار المعسر ومساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف؛ لأنّ ذلك مما يقوي الروابط ويزيد الأخوة، ونهاهم عن الغش والنجش والربا والاحتكار والمطل، وأن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب على خطبته؛ لأن ذلك مما يوغر الصدور، ويقطع الروابط، ويسبب العداوة والبغضاء.
وفي جوانب الأخلاق والسلوك أمرهم بالسلام ورده، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونهاهم عما يسبّب العداوة والبغضاء والتفرق والاختلاف كالعقوق والقطيعة والأذى، والغيبة والنميمة والهمز واللمز وغيرها من الأخلاق الرديئة.
بل جاء في القرآن صراحة ما يدل على حصر الأخوة في الإيمان؛ مما يدلّ أنها الرابطة الأعلى والصلة الأوثق، وأن كل رابطة سواها فهي تحتها وخاضعة لها وتُحاكم إليها، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وأمرنا ربنا جل جلاله بالاجتماع ونهانا عن التفرق: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وفي آية أخرى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ [آل عمران: 105].
وجاءت النصوص عن النبيّ ترسخ هذه الأخوة، وتدعو إلى ما يعزّزها ويقوّيها، وتنهى عما يضعفها ويصدعها، قال عليه الصلاة والسلام: ((الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إن اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ)) رواه مسلم، وفي حديث آخر: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ من أَهْلِ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لأَهْلِ الإِيمَانِ كما يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا في الرَّأْسِ)) رواه أحمد.
وفي جانب النصرة وعدم الخذلان قال : ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ)) رواه الشيخان، وفي حديث آخر: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُه)) رواه مسلم، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أو مَظْلُومًا)) رواه الشيخان.
وإذا سُفك دم امرئ مسلم بغير حق فكأنما سفكت دماء المسلمين أجمعين، وإذا نهب ماله أو هدم عمرانه أو أصابته مصيبة وجب أن يحس به إخوانه، وأن يقفوا معه؛ كما قال النبي : ((الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عليهم أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ على من سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ على مُضْعِفِهِمْ ومتسرِّيهم على قَاعِدِهِمْ)) رواه أبو داود. وفي حديث آخر: ((الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عليه ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ من وَرَائِهِ)) رواه أبو داود. قال العلماء: أي: يمنع تلفه وخسرانه.
وعلى هذا الأساس المتين من الأخوة والمحبة ذابت مختلف الأعراق والأجناس في بوتقة الإسلام، وتلاشت العنصريات والعصبيات، ولم يبق إلا رابطة الدين وعصبية الإيمان؛ عزت بها الأمة، واجتمعت تحت رايتها، حتى جاء الاستعمار البغيض على أنقاض دولة بني عثمان، ففرق الأمّة إلى دول شتى، وأحيا فيها الجاهلية الأولى، فاعتزّ كل ناس بعرقهم، وفاخروا بلسانهم، واحتقروا غيرهم، فكان في الأمة عرب وبربر وفرس وترك وأكراد وأعراق شتى، ثم فُرِّق هذا المفرَّق إلى دول وطنية مجزأة ملتهبة الحدود، يشتد الصراع بينها متى ما أراد الأعداء ذلك، ثم فرّقت كثير من الدول على أساس عرقي قبلي أو طائفي ديني؛ يشعل الأعداء نار الفتنة بينهم متى شاؤوا؛ وذلك بتقوية الضعيف وإضعاف القوي، وبث العملاء، وترغيب الطامع، وترهيب الممتنع.
وفي قضية فلسطين أطول قضية في هذا العصر استطاع الأعداء أن يحوّلوها من الأولية الإسلامية العالمية كون الأقصى مهمًّا عند كل مسلم إلى قضية عربية خالصة لا شأن لغير العرب بها ولو كانوا مسلمين، ثم حولوها إلى شأن إقليمي شرق أوسطي، ثم ضيَّقوه إلى شأن لا علاقة لغير دول الطوق به، ثم مسخوه إلى شأن وطني داخليّ لا دخل لغير أهل الأرض المحتلة به، ثم حاول اليهود وحلفاؤهم وعلى مدى سنوات طويلة زرع الفرقة بين أهل الدائرة الضيّقة للقضية؛ ليقسموهم إلى صقور وحمائم، أو إلى مخلصين وعملاء، أو سموهم ما شئتم؛ ليرتمي أحد الفريقين في أحضان الصهاينة ويعينهم على قتل إخوانه، ويستغيث الفريق الآخر ولا مغيث من أمّة العرب التي زعمت أن القضية قضيّتها، ليهتبل الفرس الباطنيون فرصة العمر، ويمدوا أيديهم إليهم رافعين شعارات الأقصى وحماية المدافعين عنه؛ لتسويق مذهبهم والدعاية لمنهجهم الذي ينتشر في عوام المسلمين انتشار النار في الهشيم، بينما عقائدهم الباطنية وكتبهم المنقولة لا تقيم للأقصى وأهله أيّ وزن، إن هي إلا الشعارات والمكاسب.
لقد أضحت القضية الأولى للمسلمين كالكرة بين أرجل الصهاينة والباطنيين، وأصبحت دماء العزل المساكين تُراق على الأرض المحتلة بلا جرم اقترفوه؛ ليجني ثمرة ذلك صهيوني حاقد، أو فارسي طامع، والعرب في حيص بيص، ولا يزيدون في كل كارثة على قول القائل: أوسعوني ضربا فأسمعتهم شتما.
إنهم لم يحقنوا دما لإخوانهم يراق، ولا ردوا عنهم عدوان الأعداء، ولا أطعموهم إذ جاعوا، ولا أمنوهم حين خافوا، وهم الخاسر الأول من القضية، ودول الجوار هي التي أحكمت حصارها على المساكين فأهلكتهم؛ لتسنح الفرصة للمتاجرين بالقضية سياسيا ومذهبيا ليلعبوا لعبتهم، ويزيدوا مكاسبهم، وأمة العرب بين فاجر وجاهل وعاجز. وسبب ذلك التفرق والاختلاف الذي أحسن الأعداء استغلاله، ولعبوا على تناقضاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأحسن الله عزاء الأمة في مصابها الجلل، وفي دماء المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا نصير لهم من البشر، وأحسن الله تعالى عزاء أمة العرب في خسارتها مرة بعد مرة.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
|