.

اليوم م الموافق ‏24/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

5910

العلم والدعوة والجهاد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أحمد بن حسين الفقيهي

الرياض

جامع الإحسان

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- وعيد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- ظاهرة المجاهرة بالمعاصي. 4- شبهة وجوابها. 5- ذم تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- فضل جهاز الهيئة.

الخطبة الأولى

عباد الله، فريضة عظيمة فرضها الله على أمة محمد ، هي حصن الإسلام الحصين ووثاقه المتين، فما ظهرت أعلام الشريعة في أمة وارتفعت ولا فشت أحكام الإسلام وانتشرت ولا خابت مساعي الإفساد واندحرت إلا بقيامها وتحقيقها. تلكم الفريضة ـ عباد الله ـ هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أيها المسلمون، بهذه الفريضة حمى الله أهل الإسلام من نزوات الشياطين ودعوات المبطلين، وأذل الله بها أهل المعاصي والمبتدعين، وما تحققت تلك الفريضة في أمة ووجدت في مجتمع إلا عمّ الخير والصلاح، وانتشرت أسباب النجاح والفلاح، وما عطّلت في مجتمع وهمّش دورها إلا فشت فيه الضلالة، وشاعت الجهالة، واضمحلت الديانة، فبضعفها يستشري الفساد، وتخرب البلاد، ويهلك العباد، وإذا لم يقم بها عقلاء كل بلد فعلى معالم الإسلام السلام.

عباد الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط خيرية هذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. ومن اتصف بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح، قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس رعة ـ أي: سوء خلق ـ فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، ثم قال: من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها.

أيها المسلمون، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخصّ صفات صفي الله من خلقه محمد : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ [الأعراف: 157]. وهي من الفوارق بين أهل النفاق وأهل الإيمان قال سبحانه: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67]، وأما أهل الإيمان فقال عنهم سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [التوبة: 71]، يقول الإمام أحمد رحمه الله: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع، قال الراوي: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! قال: المؤمن إذا رأى أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر أو ينهى، فيقولون: هذا فضول، والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نِعم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل، فيصفونه بالكياسة لأنه يصمت عن المنكر وأهله.

عباد الله، قص الله علينا أخبار الأمم السابقة، والعواقب الوخيمة التي انتهوا إليها حين تكاسلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء الأقوام الذين أخبرنا الله عنهم لم يتركوا النهي عن المنكر بالكلية، بل أنكروا المنكر في أول ظهوره، ثم ألفوه فيما بعد، فما عاد بعضهم ينكر على بعض، روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم قرأ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]، ثم قال: ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) أخرجه أبو داود والترمذي.

أيها المسلمون، لقد كان المنكر في السابق يتمّ في الخفاء، ثم صار مع مرور الزمان وترك الإنكار يبدو على استحياء، حتى تواضع عليه الرعاع، ودعا إليه المبطلون، وسعى إلى نشره وثباته المنافقون والفاسقون، والسبب ـ عباد الله ـ أننا ساكتون، وهذا والله مؤشر خطر عظيم، ونذير بلاء مستطير؛ لأن المنكر إذا ظهر وكثر بلا إنكار عم العقاب العامة والخاصة، قال : ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله تعالى منه بعقاب)). قال بعض الشراح: لأن من لم يعمل إذا كانوا قادرين على تغيير المنكر فتركهم له رضًا بالمحرمات وعمومها، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم.

عباد الله، يتعلل بعض الناس ويعذرون أنفسهم في عدم إنكار المنكر بالاحتجاج بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]. والآية بمعناها الصحيح تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حال عدم قبول الدعوة لا ضير على المرء حينئذ من الإعراض عنهم، عن قيس بن أبي حازم قال: صعد أبو بكر رضي الله عنه منبر رسول الله فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) أخرجه أبو داود والترمذي.

عباد الله، لقد كان السلف الصالح يرون من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر في عداد أموات الأحياء، سئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء قال: من لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه، وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.

فيا أخا الإيمان، إن إنكار المنكر ليس وقفًا على أهل الحسبة فحسب، بل يتعداهم إلى كل مسلم قادر على ذلك بيده ولسانه، وبحسب المصلحة الشرعية، وأما الإنكار بالقلب فلا يعذر أحد بتركه، قال : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فأما الإنكار بالقلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس بمؤمن كما قال النبي : ((وذلك أضعف الإيمان))، قال: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم، ودرجة الإنكار بالقلب تستلزم المفارقة بمعنى أن يفارق المنكر بقلبه، ويفارق أهل المنكر ومنكرهم كما قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140]".

أيها المسلمون، إن الملامة لتزداد حين يترك الأمر والنهي من هو أهل للأمر والنهي وقادر عليه، يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا حال الناس مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وبما كان عليه هو وأصحابه رأى قلة ديانة الناس في جانب الأمر والنهي، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله يرغب عنها وهو بارد القلب وساكت اللسان شيطان أخرس؟! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة فيما جرى على الدين؟! وخيرهم المتلمظ المتحزن، ولو أنه نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله لبدل وتبدل، وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل"، ومثل هؤلاء يصدق عليهم قول ابن المبارك:

ذهب الرجـال المقتدى بفعالهـم       والمنكرون لكـل أمـر منكـر

وبقيت فِي خلف يزكـي بعضهم        بعضا ليدفع معـور عن معـور

عباد الله، لقد ابتلي كثير من الناس في هذا الزمان بالتلاوم والتواكل، فتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يؤد كل واحد منهم ما يجب عليه نحوه، حتى وصل الأمر ببعضهم أن يبصر المنكرات في بيته وعلى من تحت يده ولا يحرك ساكنًا، يرى أولاده يتركون الصلوات ويتهاونون بالجمع والجماعات ولا ينكر عليهم مع أن السلطة له في بيته، وبيده القدرة على من هو فيه، وينسى هذا وأمثاله أنه مسؤول أمام الله عن رعيته وأهل بيته، ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).

فيا أمة محمد، يا خير أمة أخرجت للناس، ما هذا التساهل أمام السيل الجارف من المنكرات؟! أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله؟! وأين الغضب وتمعّر الوجوه من انتهاك محارم الله؟! إننا والله نخشى إن تهاونّا وتقاعسنا عن الإنكار أن يصدق في زماننا قول القائل:

تفانى الخير والصلحاء ذلوا      وعز بذلهم أهـل السفـاه

وقلّ الآمرون بكل عرف        فما عن منكر فِي الناس ناه

تقول عائشة رضي الله عنهما: ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل. رواه مسلم.

بارك الله ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية

عباد الله، إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لهم فضل عظيم على المجتمع، لقيامهم بهذه الفريضة، ورفعهم لراية الفضيلة، وإن من هؤلاء فئة عزيزة كريمة، نهضت بهذا الواجب العظيم، ألا وهي الفئة التي يمثلها رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين كانوا ولا يزالون صمام أمان المجتمع، فهم خير الناس للناس، حيث سعوا للصلاح والإصلاح، ووقفوا في وجه تيار الفساد ليصدوه عن العباد والبلاد، فكم من جريمة ضبطوها، وكم من مصانع للخمر أزالوها، وكم من شقق للدعارة والخنا أغلقوها، كم يا ترى من عرض حفظوه، وكم من شباب عن الضلال حجبوه، وكم من مفسد فضحوه، ومع هذه الأعمال الجليلة التي يقومون بها مع ضعف إمكاناتهم وكثرة مسؤولياتهم وقلة مرتباتهم، مع هذا كله فهم لا يرجون من الناس جزاء ولا شكورا، وإنما يرجون من ربهم عفوًا ورحمة وأجرًا عظيما، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم.

أيها المؤمنون، إياكم أن تكونوا أعوانًا لأهل الفساد والنفاق على أهل الحسبة، فهم إخوانكم وإن بغى بعضهم عليكم، إنهم بشر مثلكم، يعتريهم ما يعتري سائر الناس، يصيبون ويخطئون، ويزيدون وينقصون، وينشطون ويكسلون، وهدفهم من ذلك كله إصلاح العباد والبلاد.

ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن معونة رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله، يقول العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: "التعاون مع رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله في حقّ من صلحت نيته لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، ولقول النبي : ((ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم" اهـ.

يا رجال الحسبة، إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء ومتاعب، ولا يقدر عليها ويصبر على لأوائها إلا الكمل من الرجال، فاصبروا على ما يعتري طريقكم من الأذى، وتذكروا أن سبيلكم هو سبيل الرسل والأنبياء، يقول الغزالي رحمه الله: "لو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلب أمثاله لم يكن للحسبة وجود أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه" اهـ.

وأخيرا، إلى معاشر النقاد لأولئك النجباء:

أقلوا عليهم لا أبـا لأبيكـم  من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

أولئك هم خير وأهدى لأنّهم   عن الْحق ما ضلوا وعن ضده صدوا

ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً