ها أنتم ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ في بداية عام هجري جديد، جعله الله عام خير وبركة وأمن وأمان، وجمع فيه كلمة المسلمين على الحق، وأعز الإسلام وأهله.
الحديث عن الهجرة النبوية مما يحبه المسلم ويأنس به ويسعد، كيف لا وهي سيرة أشرف الأنبياء والمرسلين وكيف عانى وتعب وقاسى وقاتل حتى أتم الله له الدين ورضيه له.
السيرة ـ أيها الأحبة ـ ليست قصة تُسرد وتحكى فقط وتذرف فيها الدموع وتبكي العيون، إن الارتباط بالحبيب المصطفى والهجرة أقوى وأعمق وأوثق من كل هذا.
أيها الناس، لكي نعرف ونقدر هذه النعمة التي نعيشها نعمة الإسلام والإيمان علينا أن نرجع إلى الوراء ونفكر ونتدبر أيّ أمة كنا قبل الإسلام؛ لنستشعر هذا الفضل العظيم من الله علينا كمسلمين، كنا قبل "لا إله إلا الله" أمة وثنية، أمة لا تعرف الله، أمة تسجد للحجر والشجر، أمة تصنع إلهها بيديها من تمر فإذا جاعت أكلته، أي أمة هذه يقتل بعضها بعضًا بدون سبب؟! أمة عاقة غادرة خائنة، أمة لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، فلما أراد الله أن يرفع رأسها وأن يعلي مجدها أرسل إليها رسول الهدى وصفوة خلقه ، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: ٢].
نعم، لو لم يرحمنا ربنا ويرسل إلينا خليله لكنا في ضلال وعمى كما تعيش كثير من الأمم والأجناس المجاورة لبلاد المسلمين اليوم في الكفر والشرك والوثنية، فاحمدوا الله واشكروه كثيرًا. ويجب أن لا نغفل عن هذه الكرامات والمنح الربانية، وإلا أصبحنا مسلمين بالوراثة وبالاسم فقط، وأعمالنا وأفعالنا وسلوكنا كالكافرين عياذًا بالله.
أيها الناس، تفهّموا وأدركوا معنى "لا إله إلا الله"، ولا تظنوا أن المعنى سهل ويسير، معنى "لا إله إلا الله" أي: لا معبود بحق إلا الله، ولا مطلوب ولا مرغوب ولا مدعوّ إلا الله. ومعنى "لا إله إلا الله" أن نرضى بالله ربًا وإلهًا نتحاكم إلى شريعته، ولا نرضى شريعة غيرها، فمن طلب شريعة غيرها فلا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً ولا كلامًا ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم. ومعنى "لا إله إلا الله" أن نرضى برسول الله قدوة وإمامًا ومربيًا ومعلمًا، فتجعله أسوة ومثالاً لك، وتتبع كل ما يقوله أو يفعله بدون تردد أو تأخير، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: ٢١].
إخوة الإسلام، تحدثنا في الجمعة الماضية عن عدم التشبه باليهود والنصارى في أيّ شيء متعلق بهم، وحديثنا اليوم عن التاريخ الهجري ومعناه ولماذا يؤرّخ به المسلمون.
كانت العرب في جاهليتها تؤرخ بأيامها وأحداثها الكبار، كعام الفيل وداحس والغبراء، واستمر ذلك في حياة النبيّ وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأوائل خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه حينما اتسعت الخلافة وشملت بلادًا كثيرة، فجمع عمر الناس سنة سبعة عشر من الهجرة فشاورهم: من أين يبدأ التاريخ؟ فقال بعضهم: من بعثة النبي ، وقال آخرون: من وفاته، فقال عمر رضي الله عنه: نبدأ من خروجه من مكة إلى المدينة، فاتفقوا على ذلك، على أن يكون شهر الله المحرم هو أول الشهور في السنة، ولم تذكر بداية السنة لا في القرآن ولا في السنة، قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: ٣٦].
وهكذا استقرَّ هذا التاريخ في أمة الإسلام منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، وأصبح التاريخ بالهجرة النبوية إلى المدينة، ولا يلتفت إلى غيره من التواريخ الأخرى لأننا أمة متميزة، لكن لما دبَّ الوهن والضعف في الأمة الإسلامية وأصابها العجز والكسل وتسلط عليها أعداؤها وأذنابهم من المنافقين سلكوا طريق استبدال التاريخ الهجري بالتاريخ الميلادي؛ مدَّعين بأن التاريخ الميلادي منظّم ومعروف لسنين قادمة، والعالم كله يؤرّخ به، بينما الهجري مرتبط بالقمر ويصعب الاعتماد عليه، وهذا كذب وبهتان؛ لأن التاريخ الميلادي لا يمكن أن يحلّ محلّ التاريخ الهجري؛ لما بينهما من التباين والاختلاف، والذي يمس الدين والهوية، أقول: يمس الدين والهوية؛ لأن اعتماد التاريخ الميلادي مرتبط بدينين باطلين:
أولهما: وثنية الرومان، فمثلاً: الأشهر الغربية (يناير وفبراير) تمجيد للآلهة الأسطورية عند الرومان ولقائدين رومانيين محبوبين، فـ(يناير) مأخوذ من إله الشمس: (يانوس)، و(مارس) اسم إله الحرب، و(مايو) اسم إله الخصب، و(يونيو) اسم إله القمر... إلخ هذه الأشهر التي تحمل أسماء الآلهة المزعومة والقادة المحبوبين، جعلوا أيامها تكتمل إلى واحد وثلاثين يومًا من باب التفاؤل، والأخرى تحمل ثلاثين يومًا لأنهم يتشاءمون من الأعداد الزوجيّة، أما الأشهر الشرقية كـ(كانون ونيسان وتموز وآب) فهي أشهر التقويم السرياني الذي اندثر قبل ثلاثة قرون، إلا أن أسماء الشهور بقيت وارتبطت بأسماء الشهور الغربية.
وأما الدين الآخر الذي ارتبطت به هذه الأشهر فهو الدين النصراني، فلقد أقر المجمع الكنسي الاعتماد على استخدام التاريخ الروماني، ثم رُبط بعد ذلك بميلاد المسيح عليه السلام في القرن السادس أو الثامن من ميلاده، ومن هنا نعلم أن نسبة هذا التاريخ إلى ميلاد المسيح جاءت متأخرة جدًا عن ميلاده.
عباد الله، من هنا عرفنا أن هذا التقويم وضعي غير مبني على أساس كوني في تقسيم شهوره، بل إن القياصرة والباباوات تغيِّر فيه حسب ما ترى؛ ولذا لما قصرت الأيام اختاروا فبراير مكانًا للنقص، فكان ثمانية وعشرين يومًا في السنوات البسيطة، وتسعة وعشرين يومًا في السنوات الكبيسة.
أيها المسلمون، تعرفوا على تاريخكم الهجري، وتمسكوا به؛ فإنه تاريخ مرتبط بالدين ووضع من أجله، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة وآجال الديون والرهان وعدة الطلاق ومُدَد الإحداد والإيلاء وغير ذلك؛ لذا قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: ٥].
والحكمة في ذلك أن الشهر القمري ظاهر للناس كافة ومعلوم ومشاهد وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفه ويشاهده المتعلم والأمي، والذي في الحاضرة بين الناس والذي في البادية مع ماشيته ولوحده، وهذا من رحمة الله وتيسيره لأمة محمد ، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨].
بخلاف اتباع سير الشمس، فهي صعبة وفيها مشقة، فالخليفة الفاروق رضي الله عنه ملهم حينما اختار التاريخ القمري والهجرة النبوية للعمل بهما؛ لأن الله سبحانه جعل الحساب الشرعي الذي ترتبط به عبادات الناس مبنيًا على سير القمر، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٩]، معنى ذلك أن الأشهر القمرية دين وليست عادة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|