أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، كَيفَ كَانَ أَسلافُنَا في غَزَوَاتِهِم وَفُتُوحَاتِهِم؟ كَيفَ تَعَامَلُوا مَعَ البِلادِ الَّتي فَتَحُوهَا وَالشُّعُوبِ الَّتي غَلَبُوهَا؟ وَمَا أَهدَافُهُم حِينَ جَهَّزُوا الجُيُوشَ وَبَعَثُوا السَّرَايَا؟ هَل كَانُوا آفَةً تُفسِدُ في الأَرضِ وَتُهلِكُ الحَرثَ وَالنَّسلَ؟! هَل كَانَ مِن شَأنِهِمُ القَضَاءُ عَلَى الأَخضَرِ وَاليَابِسِ؟! هَل عَمَدُوا إِلى استِنزَافِ الخَيرَاتِ وَنَهبِ الثَّرَوَاتِ؟! هَل قَصَدُوا استِعبَادَ النَّاسِ وَمُصَادَرَةَ آرَائِهِم وَإِكرَاهَهُم عَلَى الدُّخُولِ في الإِسلامِ؟! لا وَاللهِ، مَا كَانَ شَيءٌ مِن ذَلِكَ مَقصُودًا أَبَدًا، وَإِنَّمَا كَانُوا دُعَاةَ خَيرٍ وَمَشَاعِلَ هِدَايَةٍ وَأَنوَارَ هُدًى، كَانُوا رُسُلَ أَمنٍ وَمَبعُوثِي سَلامٍ وَفَاتِحِي قُلُوبٍ، كَانُوا رَحمَةً لِلنَّاسِ وَبَرَكَةً عَلَى البِلادِ وَصَلاحًا لِلمُجتَمَعَاتِ، يُمَثِّلُ ذَلِكَ البَيَانُ العَسكَرِيُّ النَّبَوِيُّ الكَرِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَتلُوهُ عَلَى أَمِيرِ الجَيشِ وَمَن مَعَهُ كُلَّمَا بَعَثَ جَيشًا، فَعَن بُرَيدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيشٍ أَوصَاهُ في خَاصَّةِ نَفسِهِ بِتَقوَى اللهِ وَمَن مَعَهُ مِنَ المُسلِمِينَ خَيرًا وَقَالَ: ((اُغزُوا بِاسمِ اللهِ، وَفي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللهِ، وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغدُرُوا، وَلا تُمَثِّلُوا وَلا تَقتُلُوا وَلِيدًا، فَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشرِكِينَ فَادعُهُم إِلى إِحدَى ثَلاثِ خِصَالٍ ـ أَو: خِلالٍ ـ، أَيَّهَا أَجَابُوكَ فَاقبَلْ مِنهُم وَكُفَّ عَنهُم، وَادعُهُم إِلى الإِسلامِ وَالتَّحَوُّلِ مِن دَارِهِم إِلى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخبِرْهُم إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّ لهم مَا لِلمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِم مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، وَإِنْ أَبَوا أَن يَتَحَوَّلُوا فَأَخبِرْهُم أَنهم يَكُونُونَ كَأَعرَابِ المُسلِمِينَ يَجرِي عَلَيهِم مَا يَجرِي عَلَى الأَعرَابِ، لَيسَ لهم في الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ شَيءٌ إِلاَّ أَن يُجَاهِدُوا، فَإِنْ أَبَوا فَاستَعِنْ بِاللهِ عَلَيهِم وَقَاتِلْهُم)) الحَدِيثَ.
وَكُتُبُ السُّنَّةِ وَأَسفَارُ التَّأرِيخِ وَمُؤَلَّفَاتُ السِّيَرِ مَلِيئَةٌ بما يُفصِحُ عَن أَخلاقِ المُسلِمِينَ في غَزَوَاتِهِم وَمَعَارِكِهِم، مِن ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الأَسوَدُ بنُ سريعٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ في غَزَاةٍ، فَظَفِرنَا بِالمُشرِكِينَ فَأَسرَعَ النَّاسُ في القَتلِ حَتى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أَقوَامٍ ذَهَبَ بهمُ القَتلُ حَتى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ؟! أَلا لا تَقتُلُوا ذُرِّيَّةً)) ثَلاثًا. وَعَن رِيَاحِ بنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ في غَزَاةٍ وَعَلَى مُقَدَّمَةِ النَّاسِ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ، فَإِذَا امرَأَةٌ مَقتُولَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَتَعَجَّبُونَ مِن خَلقِهَا قَد أَصَابَتهَا المُقَدَّمَةُ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ فَوَقَفَ عَلَيهَا فَقَالَ: ((مَا كَانَت هَذِهِ تُقَاتِلُ))، ثم قَالَ: ((أَدرِكْ خَالِدًا، فَلا تَقتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلا عَسِيفًا)). وَفي المُوَطَّأِ أَنَّ أَبَا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بَعَثَ جُيُوشًا إِلى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمشِي مَعَ يَزِيدَ بنِ أَبي سُفيَانَ وَكَانَ أَمِيرَ رَبعٍ مِن تِلكِ الأَربَاعِ، فَكَانَ ممَّا أَوصَاهُ بِهِ أَن قَالَ لَهُ: (وَإِني مُوصِيكَ بِعَشرٍ: لا تَقتُلَنَّ امرَأَةً وَلا صَبِيًّا وَلا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلا تَقطَعَنَّ شَجَرًا مُثمِرًا، وَلا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلا تَعقِرَنَّ شَاةً وَلا بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأكَلَةٍ، وَلا تُحرِقَنَّ نَخلاً وَلا تُفَرِّقَنَّهُ، وَلا تَغلُلْ وَلا تَجبُنْ).
اللهُ أَكبرُ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، هَكَذَا كَانَ قَائِدُ الأُمَّةِ وَأَصحَابُهُ، وَهَكَذَا كَانَت مَبَادِئُهُم، قِتَالُهُم عَلَى اسمِ اللهِ وَفي سَبِيلِ اللهِ، لإِعلاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَنَشرِ دِينِ اللهِ، وَلِرَدِّ مَن كَفَرُوا بِاللهِ إِلى الإِيمَانِ، لا غُلُولَ وَلا غَدرَ ولا خِيَانَةَ، وَلا تَعذِيبَ وَلا تَمثِيلَ وَلا تَشوِيهَ، لم يَقتُلُوا شَيخًا فَانِيًا وَلا امرَأَةً عَاجِزةً، ولم يَقصِدُوا طِفلاً وَلِيدًا وَلا ذُرِّيَّةً ضُعَفَاءَ، هَكَذَا كَانُوا بَل وَأَكثَرَ مِن ذَلِكَ، فَأَينَ مَا كَانَ عَلَيهِ أُولَئِكَ الأَبرَارُ الأَخيَارُ الأَطهَارُ ممَّا فَعَلَهُ اليَهُودُ الأَنجَاسُ الأَرجَاسُ بِمُبَارَكَةِ النِّظَامِ العَالِمِيِّ وَقَرَارَاتِ مَا يُسَمَّى بِالشَّرعِيَّةِ الدَّولِيَّةِ، وَتَحتَ شِعَارَاتِ السَّلامِ وَالإِنسَانِيَّةِ وَالعَدلِ وَالحُرِّيَّةِ؟! وَهِيَ القَرَارَاتُ الكَاذِبَةُ وَالشِّعَارَاتُ الخَادِعَةُ الَّتي لم تُعرَفْ إِلاَّ في بَيَانَاتِ المُؤتَمَرَاتِ وَعلى طَاوِلاتِ الاجِتَمَاعَاتِ! أَمَّا في الوَاقِعِ فَلا، وَمَا حَصَلَ وَيَحصُلُ في دِيَارِ المُسلِمِينَ خَيرُ شَاهِدٍ، في أَفغَانِستَانَ وَفي الشِّيشَانِ، وَفي العِرَاقِ وَفي فِلَسطِينَ، وَفي غَيرِهَا مِن بِلادِ المُسلِمِينَ، حَيثُ الغَارَاتُ الهَمَجِيَّةُ وَالإِبَادَةُ الجَمَاعِيَّةُ، وَالقَنَابِلُ المُحَرَّمَةُ وَالصَّوَارِيخُ المُدَمِّرَةُ، الَّتي لا تُفَرِّقُ بَينَ مَدَنِيِّينَ وَعَسكَرِيِّينَ، وَلا بَينَ مُحَارِبِينَ وَمُسَالِمِينَ، تُفسِدُ الزُّرُوعَ وَتَأتي عَلَى الثِّمَارِ، وَتَهدِمُ البُيُوتَ وَتُحرِقُ الأَشجَارَ، فَلا يُرَى الأَطفَالُ وَالنِّسَاءُ وَالشُّيوخُ وَالعَجَائِزُ إِلاَّ تَحتَ الأَنقَاضِ مَطمُورِينَ، أَو بَينَ الرُّكَامِ مُحتَجَزِينَ، بُيُوتٌ تُهدَمُ عَلَى رُؤُوسِ أَهلِهَا، وَأُسَرٌ تُبَادُ بِأَكمَلِهَا، وَأُمَّهَاتٌ يُقتَلْنَ وَهُنَّ يَحتَضِنَّ أَطفَالَهُنَّ، وَتُحَاصَرُ شُعُوبٌ حِصَارَ البَهَائِمِ في الحَظَائِرِ، وَتُضعَفُ اقتِصَادِيًّا وَتُجَوَّعُ، لا غِذَاءَ وَلا دَوَاءَ، فَأَيَّةُ قِيَمٍ هَذِهِ وَأَيَّةُ أَخلاقٍ؟! وَأَيُّ سَلامٍ هَذَا وَأَيُّ أَمنٍ؟! وَأَينَ هِيَ المُسَاوَاةُ وَالعَدلُ وَالحُرِّيَّةُ؟! وَأَينَ هُوَ الحُبُّ الَّذِي جَعَلُوا لَهُ عِيدًا؟! لَقَد نَادَتِ الأَحدَاثُ لَو أَسمَعَتْ حَيًّا، وَلم تُبقِ لِهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ مِن عَورَةٍ إِلاَّ أَبدَتْهَا، وَلا قِنَاعًا إِلاَّ سَلَبَتهُم إِيَّاهُ، لَقَد أَظهَرَت أَنَّهُم لا يُرِيدُونَ إِلاَّ إِبَادَةَ المُسلِمِينَ وَالقَضَاءَ عَلَيهِم، وَتَغيِيرَ عَقِيدَتِهِم وَتَبدِيلَ دِينِهِم، وَنَهبَ ثَرَوَاتِهِم وَمُقَدَّرَاتِهِم وَتَجوِيعَهُم.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ لَمِن أَعجَبِ العَجَبِ أَن يَرَى العَالَمُ مَا حَصَلَ لِلمُسلِمِينَ وَيَستَنكِرُهُ المُنصِفُونَ وَلا يَرضَونَهُ، ثم تَبقَى شَرَاذِمُ مِنَ المُخَذِّلِينَ مِن قَومِنَا، يَخُوضُونَ بِأَقلامِهِم في الصُّحُفِ وَالجَرَائِدِ، وَيَرفَعُونَ أَلسِنَتَهُم في القَنَوَاتِ وَالمَجَالِسِ، قَاصِدِينَ إِضفَاءَ الشَّرعِيَّةِ عَلَى مَا يَفعَلُهُ اليَهُودُ المُعتَدُونَ، مُلقِينَ بِاللَّومِ عَلَى إِخوَانِهِمُ المُجَاهِدِينَ، مُحَاوِلِينَ تَحمِيلَهُم نَتَائِجَ مَا نَزَلَ وَجَعلَهُمُ السَّبَبَ فِيمَا حَصَلَ، وَوَصمَهُم بِالتَّسَرُّعِ وَالعَجَلَةِ وَعَدَمِ الحِكمَةِ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! قَومٌ مَظلُومُونَ مُستَضعَفُونَ، مُحتَلَّةٌ دِيَارُهُم مُغتَصَبَةٌ أَرَاضِيهِم، مُدَنَّسَةٌ مُقَدَّسَاتُهُم مُنتَهَكَةٌ أَعرَاضُهُم، مَقطُوعَةٌ عَنهُمُ المَؤُونَةُ وَالأَرزَاقُ، أَلَيسَ لهم حَقٌّ أَن يُدَافِعُوا عَن أَنفُسِهِم وَيَحمُوا مُقَدَّسَاتِهِم وَيَصُونُوا أَعرَاضَهُم؟! أَيُلامُونَ إِذْ يُرِيدُونَ أَن يَعِيشُوا عِيشَةَ الأَحرَارِ؟! لا يَعلَمُ العَاقِلُ مَاذَا يُرِيدُ هَؤُلاءِ المُخَذِّلُونَ لإِخوَانِهِم المُسلِمِينَ، أَيُرِيدُونَ مِنهُم بَعدَ الحِصَارِ وَالتَّجوِيعِ وَالإِذلالِ وَالتَّركِيعِ أَن يَضعُفُوا وَيَستَكِينُوا؟! أَيُرِيدُونَ مِنهُم بَعدَ القَتلِ وَالتَّشرِيدِ وَالإِبَادَةِ أَن يُطِيعُوا طَاعَةً عَميَاءَ وَيُذعِنُوا إِذعَانًا أَرعَنَ؟! أَيُرِيدُونَ مِنهُم أَن لاَّ يَرفَعُوا بِطَلَبِ حَقٍّ رَأسًا وَلا يَبذُلُوا في رَفعِ ظُلمٍ جُهدًا؟! أَيُرِيدُونَ مِنهُم أَن لاَّ يَتَحَرَّكُوا لِمُنَاوَأَةٍ وَلا يَقدَحُوا زِنَادًا لِمُقَاوَمَةٍ؟! أَيُرِيدُونَ مِنهُم أَن يَجلِسُوا مَكتُوفي الأَيدِي مُكَبَّلِي الأَرجُلِ حَتى يَأتِيَهُم مَوتٌ مُجهِزٌ أَو تَقتُلَهُم غَارَةٌ ظَالِمَةٌ؟! إِنَّهُ لَشَيءٌ عَجِيبٌ!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحذَرُوا ممَّا يُشِيعُهُ مَن أَعمَى اللهُ بَصَائِرَهُم عَنِ الكُفَّارِ أَنَّهُم أَصحَابُ عَدلٍ وَحُرِّيَّةٍ وَمُسَاوَاةٍ، أَو مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ المُسلِمِينَ على أَنَّهُم أَهلُ إِرهَابٍ وَهُوَاةُ قَتلٍ، أَو مَا يَصِمُونَ بِهِ المُجَاهِدِينَ وَمَا يُثِيرُونَهُ حَولَهُم مِن شُبُهَاتٍ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالمِينَ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِليَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَل أَنتُم مُسلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوا فَقُلْ آذَنتُكُم عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعلَمُ الجَهرَ مِنَ القَولِ وَيَعلَمُ مَا تَكتُمُونَ وَإِنْ أَدرِي لَعَلَّهُ فِتنَةٌ لَكُم وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ قَالَ رَبِّ احكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحمَنُ المُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
|