.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

دفاع عن المقاومة

5872

العلم والدعوة والجهاد

القتال والجهاد

عبد الله بن محمد الطوالة

جدة

20/1/1430

مسجد علي بن أبي طالب

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أعداء القضية. 2- من كلام المخذلين. 3- نقاش موضوعي وعقلاني للمخذلين. 4- رسالة للمجاهدين الأباة.

الخطبة الأولى

دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها. إنهم إناس من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، إنه التيار الإعلامي العلماني المخذّل الذي ملأ صفحات جرائده ومجلاته وقنواته الفضائية بأطروحات فجّة وأفكار سامجة ساذجة، ومع كل ذلك فإنّ هذا التيار يزعم أنه في طروحاته وأفكاره وكتاباته يُعمل المنطق المتّزن والعقل المتجرّد، فاستمعوا إلى أحدهم ماذا يقول:

"ومقابل ماذا يحشرون شعبهم المشلول في حبسٍ مأساويٍ، حبسٍ اسمه: غزة، ويستمرّون في إطلاق صواريخ لا تفعل أكثر من حفَرٍ صغيرةٍ في أرصفة تل أبيب، ثم يغضبون عندما تهرشهم إسرائيل القبيحة بتلك البشاعة، وتجعل بيوت المدنيين ركامًا مختلطًا بعظامهم، بل يطلقون ألسنتهم بالسباب واتهام العرب والمسلمين جميعًا بالتواطؤ والخذلان والخيانات، ولا يتذكرون وسط كلّ هذا من إساءتهم لشعبهم ومقامرتهم به شيئًا"، ويقول آخر: "جرّب العرب الحروب فلم تزدهم إلا خبالاً وخسارًا، وجرّبوا المقاومة المسلّحة فلم تزدهم إلا رهقًا وتشتتًا وضياعًا، حماس تنطلق من رؤية جماعة الإخوان المسلمين التي تريد الوصول إلى السلطة بأي ثمنٍ والمحافظة عليها بأي سعرٍ، حتى لو كان الثمن دماء الفلسطينيين ودمار غزّة، وأن يخربوا بيوت الفلسطينيين. إنّ جرح فلسطين الغائر لن يحلّه الغوغائيون، ولن ينقذه المتاجرون به، بل حلُّه يكمن في العقل والحكمة والسياسة الواعية المنضبطة، بعيدًا عن الشعارات والهتافات الفارغة التي تضرّ أكثر مما تنفع"، ويقول آخر: "وذبيحة غزّة التي لم ينِ الجزّار الفاتك الإسرائيلي يعيث فيها تقتيلاً وتجريحًا وتدميرًا هي ذبيحة لها جلاّب أوصلها لحتفها، فالجزّار الإسرائيلي لم يستيقظ ذات صباحٍ ليقول: سأهاجم غزّة هذا الصباح، ولكنّ المتحرّشين به بلا سببٍ هم الذين جلبوها له على طبقٍ من دمٍ وشعاراتٍ وغوغائيةٍ، وهم الذين قالوا له بلسان الحال: اذبحها لنمشي في جنازتها"، وقال آخر: "قليل من الألعاب النارية التي قتلت من الغزاويين أكثر مما قتلت من الإسرائيليين، وتهجم إسرائيل، وينسى الجميع البرنامج النووي الإيراني، وهذا هو كل ما تريده إيران".

هذه طائفةٍ من كتابات القوم تعليقًا على حربِ غزةَ الطاحنة التي ذهب ضحيتها حتى هذه اللحظة أكثر من ألف ومائة شهيد وخمسة الآلف جريح، إنها عبارات مخذلة لمجاهدي فلسطين وأهلها، تشكل (قصفًا) آخر فوق القصفِ الصهيوني الذي يتعرضُون له!

فتعالوا ـ أحبتي في الله ـ نتجرّدَ من عواطفنا الثائرة، وننحّي لغة الجراح والدماء جانبًا، لنناقشَ هذه الأطروحاتِ العلمانية بذات المنطق والعقلانية التي يزعمون أنهم يتحلون بها.

تتبنى هذه الأطروحات المخذلة في مجملها فكرتينٍ رئيستينٍ:

الأولى: أنَّ صواريخ المقاومة العبثية و(ألاعيبها) القتالية هي السبب المباشر فيما حدث لغزّةَ، وبالتالي فهي شريكة (للجزار) في جريمة (الذبح)، بل هي التي وضعت الشاةَ بين يدي الجزار وأمسكتها بعنف ليتسنى له الذبح كما يريد!

والثانية: أنّ المقاومة الفلسطينية الإسلامية إنّما تسعى إلى السلطة من جهة، وإلى تحقيق مصالح أحد الأطراف الخارجية من جهة أخرى، أي: أنها عميلة تتاجِر بدماء الفلسطينيين المساكين، غير عابئة بكل ما يجري لهم!

والخلاصة أن المقاومة الفلسطينية مخطئة، وأنَّ خيار المقاومة خيار خاطئٌ من كل الجهات، وأن الحل كما قال أحدهم يكمنُ "في العقل والحكمة والسياسة الواعية المنضبطة، بعيدًا عن الشعارات والهتافات الفارغة التي تضرّ أكثر مما تنفع".

بداية ومنطقيًا فمن العبثِ أن يصدق عاقل أن أولئك المقاتلين الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم واصطفوا في طوابير الشهادةِ ومنذ عشرات السنين هم طلاب سلطة! نعم، من المنطق أن يكون الفارُّون من المعتركِ والذين يعيشون في أمان تامّ وفي رفاهيةِ وبذخ والذين لا يفعلون غير التصريحات ويجنون الملايين بعد الملايين أولئك يمكن أن يكونوا طلاب سلطة، أما من يشرع صدره للموتِ ويطلبُ الشهادة بابتسامة عريضة فكيف يمكن أن يكون طالبَ سلطةٍ؟! كيف وقد رأيناهم وبعد سنين من استلامهم للسلطة المزعومة هم هم؟! نفس البيوت والسلوكيات المتواضعة البسيطة. ثم كيف يُقبل عقلاً أن تكون المقاومة باحثةً عن السلطةٍ وكل قياداتها تقريبًا قد نالت الشهادةَ أو تعرضت لمحاولة اغتيال؟!

ولنبدأ نقاشنا المنطقي المتزن من هذه المقارنة التاريخية بين ما حدث قبل اثنتين وأربعين سنة وما يحدث الآن: في حرب 67 تمكّن العدو إسرائيلُ من تدمير كامل سلاح الجو الأردني، ومعظمِ السلاح الجويّ السوريّ، وعددٍ كبيرٍ من طائراتِ الجيش العراقي، واستولت على منابع النفط في سيناء، وسيطرت إسرائيل على منابع مياه الأردن، وتحكمتْ في خليج العقبة، واكتشف العربُ أنّهم خسروا في خمسة أيام فقط عشرة آلاف شهيد وجريح، وخمسة آلاف أسير، وأنّه قد شُرّد نحو 330 ألف فلسطيني، وأنَّ إسرائيل قد احتلت أراضي الدول عربية وهي: شبه جزيرة سيناء وغزة في مصر، وهضبة الجولان في وسوريا، ومزارع شبعا في لبنان، والضفة الغربية والغور في الأردن، واكتشفوا أيضًا أنّ ما احتله العدو إسرائيل في تلك الحرب ضاعف مساحتها ثلاث مراتٍ، وأبشع من هذا كله أن القدس قد ضاعت. ولم يكن العدو الإسرائيلي وقتها في مواجهةِ الفلسطينيين وحدهم بل واجه العرب جميعًا، العرب الذين كانوا يمتلكون قرابة ألفين وثلاثمائة دبابة مقابل ألف دبابة إسرائيلية! العرب الذين كانوا يمتلكون قرابة ستمائة طائرة بإزاء مائة وسبعٍ وتسعين طائرةً إسرائيلية! العرب الذين كان تعداد مقاتليهم ثلاثمائة وثلاثين ألفًا بإزاء مائتين وخمسين ألفًا من الإسرائليين! ومع تفوق ميزان القوى لصالح العرب حدث ما حدث، وشهد الخامس من حزيران أقصر حرب في التاريخ، حرب لم تدم أكثر من خمسةِ أيام ضاع فيها كل شيء.

انتهت المقاومة، وانكسرت الجيوش، واستسلم الجميع، وسلبت الكثير من الأراضي إلى اليوم، وفي المقابل فها نحنُ في اليوم الحادي والعشرين من أيام حرب غزةَ، الحربُ التي بدأت بغتةً بعد تطميناتٍ (عربية) للفلسطينيين بأن لا شبحَ حربٍ يلوح في الأفق. الحرب التي اختار الصهاينة لبدايتها توقيت الذروة (الحادية عشر والنصف صباحًا) ليزداد عدد الضحايا. الحرب التي ألقى فيها العدو ولا يزال آلاف الأطنان من القذائف والصواريخ على سجن صغير لا تتجاوز مساحته 300 كلم مربع. الحرب التي لم تتصد لها إلا المقاومة الفلسطينية لوحدها دون أن تتلقى أي دعم عسكريّ من أيِّ جهةٍ خارجية. الحربُ التي سبقتها حرب استنزافية، حصار اقتصادي خانق لأكثر من سنتين نفد خلالها أغلب مخزون الغذاء والوقود والدواء. الحرب التي خذل فيها بعض الفلسطينيين إخوانهم المجاهدين، حتى إنهم لم يجدوا شيئًا يقولونه سوى التصريح بأنهم (جاهزون) لملء الفراغ السياسي الذي سيحصل في غزة بعد تصفية المقاومة. الحرب التي لعبتْ فيها الآلة الإعلامية العالمية لعبتها القذرة، فجعلت الضحيةَ مجرمًا وجعلت من صواريخ المقاومة مسمار جحا، ومع كل هذه الوقائع والحقائق وغيرها مما لا يتسع الوقت لطرحة أو لا يحسن الحديث بشأنه إلا أنَّ صواريخ المقاومة ما زالت تنطلق، بل إنها بلغت ما لم يبلغه أحدٌ قبلها، وأصابت أكبر قاعدةٍ جوية للعدو، وبدأ اليهود يختبئون في الملاجئ، وما إن بدأ الاجتياح البريّ حتى حصدتْ المقاومةُ أرواح عشرات الجنود الصهاينة، فهل لاحظنا الفرق بين الموقفين؟! لم يذكر التاريخ ولم يقل أحد: إنَّ يهوديًا واحدًا في الداخل أصيب بالفزع عقيب حرب سبعة وستين، وها نحن نرى ونسمع في حرب غزة اليوم مليوني إسرائيلي في دائرة الخوف، يدخلون إلى الملاجئ ويعطلون دراستهم ويبكون. لم يذكر التاريخ ولم يقل أحد: إنّ مسؤولاً يهوديًا واحدًا ساوره القلق عشية حرب سبعة وستين، وها هو العالم بأسره في حرب غزة اليوم يرى عبر شاشات التلفزة عيانًا بيانًا وزيرًا يهوديًا يغلبه الفزع ويختبئ تحت سيارة ليبث من هناك تهديداته وتوعداته.

إن ذاكرة التاريخ تشهد أن ابتسامة الرؤساء اليهود آنذاك كانت تتسعُ مع مرور كل يوم من أيام تلك الحرب وما بعدها، وها نحن نرى اليوم ابتسامات الرؤساء الحاليين تتقلصُ يومًا بعد يوم، فما الذي تغير إذن؟ إنه لغز محير، فلم يكن ما يسمى بالكيان الصهيوني في يوم من الأيام قويًا كما هو اليوم، ولم يكن في يوم من الأيام متوحشًا فتاكًا كما هو اليوم، ولم يحصل على دعم الغرب المفتوح كما حصل عليه اليوم، ولم يتخاذل أصحاب الحق عن حقهم ويجبنوا عن الرد كما تخاذلوا اليوم، ووسط هذا الاستعلاء الصهيوني المتغطرس والمتزايد وما يقابله من ذل وهوان وتنازلات من أصحاب الحق يقوم مجموعة من المقاومين قليلة أعدادهم محدودة تجهيزاتهم ليقفوا وحدهم أمام رابع أقوى جيش في العالم، وللأسبوع الرابع على التوالي، بل ويدمرون من دبابات العدو وطائراته ودياره وقواعده، ويقتلون ويأسرون ويصيبون من جنوده ما لم يتحقق مثله في السابق، ويعجز الجيش الذي لا يقهر من تحقيق أي نوع من السيطرة فضلاً عن الانتصار، ويقف عاجزًا أمام صمود غزة، ولا يجد الجيش المتغطرس له من حيلة إلا سحق المنازل والمساجد وقتل الأطفال والنساء وكل ما يتحرك على الأرض، وها هو العدو الجبان يتجنب الإفصاح عن الحجم الحقيقي لخسائره الفادحة.

كيف حدث كل هذا؟ إنها الصواريخ العبثية، هي من أحدث كل هذا البون الشاسع، فالصواريخ إذن هي (الحل) وليست (المشكلة)، فقد كنّا نُضربُ ونصمتُ، بل و(نقبّل) كفَّ من ضربنا، والآن فنحن على الأقل نُضربُ ونضرِبُ.

أمر آخر، وهو أنه ليست صواريخ المقاومة وحدها هي سبب عدوان الصهاينة، فقد نفذ اليهود سابقًا عشرات المجازر البشعة دون أن تستفزّهم صواريخُ أو حتى حجارة. وإنَّ قراءة تاريخ تلك المجازر يبين بوضوح أنها كانت بمبادأة صهيونية، أي أنها لم تكن بسبب الاستفزاز المزعوم. ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن كل انتخابات يهودية سبقتها مجزرة عاصفة، فشارون تصدر بعد مذبحتِهِ (جهنم المتدحرجة)، وبيريز صعدتْ به إلى رئاسة الوزراء (عناقيد الغضب)، وليس سرًا أن بعض الوزراء الحاليين يخوضُون عبر هذه الحرب معركةً انتخابيةً، فهل نظن بعد هذا أن المقاومة لو استسلمت لذَبْحِ الحِصار ولم تحرك ساكنًا لما أصاب غزة ما أصابها، ولما ذبحها (الجزار)؟!

ثم إن المخذلين حين يتكلمون عن استفزاز صواريخ المقاومة يتكلمون بلسان شعب فلسطين، ويصورون للناس أن فلانًا وفلانًا من قادة المقاومة يتاجرون بالشعارات، وأن الشعب هو الضحية، بينما الجواب يأتي من الشعب نفسه، الشعب الفلسطيني الذي خرج قبل الحرب بأيامٍ قليلةٍ في حشودٍ ضخمةٍ مؤيدًا لخيار المقاومة والجهاد، ومصطفا مع الحكومة التي اختارها، "ووفقًا لوكالات الأنباء فإن هذا الاحتشاد الشعبي كان الأضخم في التاريخ الفلسطيني المعاصر". الشعبُ الذي قيل: إن (المقاومة) حشرته في (صندوق) ضيق، وتاجرت بدمه، وجعلته عرضةً للعذاب، هذا الشعبُ هو الذي يخرج هاتفًا للمقاومة مؤيدًا لبرنامجها، وهو الذي اختارها ابتداءً لتحكمه، وكان على وعيٍ ببرنامجها ومعرفةٍ تامة بمنطقها المقاوم، وهو الذي نسمعُهُ اليوم عبر الفضائيات والاتصالات في قلبِ الحربِ يشدُّ على يد المقاومين ويطلب منهم الصمود والانتقام من اليهود. ثم نأتي نحن ونتكلم باسمه ونقول: مسكين هذا الشعب! لقد راح ضحيةً لمغامرات قادة المقاومة.

والسؤال المعاكس لهؤلاء المخذلين الذين دائمًا ما يتحدثون عن المقاومة بمنطق أسلافهم من المنافقين: لَوْ أَطَاعُونَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فبدورنا نسائلهم: ما الذي كان سيفعله اليهود لو لم تكن هناك مقاومة؟ ألم يكن رؤساء ووزراء الكيان الصهيوني سابقًا يكثرون التحدث عن دولة عظمى من البحر إلى النهر وعن إبادة كاملةٍ للفلسطينيين؟! فما الذي خفض تلك الطموحات الصهيونية وقلل من أحلامها؟! أليست المقاومة المستمرة هي التي أجبرتهم على بعض التنازلات؟!

لنطرح المسألة من زاوية أخرى، فما يجب أن ندركه جيدًا أنّ معظم المستوطنين اليهود الحاليين هم مجرد مرتزقة، لم يأتوا إلى فلسطين إلا للرخاء المادي، ولا أدل على هذا من أن إعلانات الإغراء التي ينشرها اليهود في الصحف الغربية عن المستوطنات في فلسطين المحتلة لم يعد يُتحدث عنها بمنطق العودة إلى أرض الأجداد، وإنما بات يُتحدث عن مزاياها المادية فقط. إذنْ فالخلفية الإدراكية للمستوطن اليهودي أنه سيأتي إلى أرض ينعم فيها بالرخاء المادي والبذخ والرفاهية، إذا فهمنا ذلك جيدًا أدركنا أنَّ (كل ما ينغص على المستوطنين حياتهم هو في النهاية إحباطٌ للمخطط الصهيوني).

المسألة إذن ليست مسألة صواريخ، لا تزيد على أن تثقب ثقبًا صغيرًا في شوارع أو جدران المغتصبات، المسألة أن هذه الصواريخ البسيطة تهز البناء الداخلي للمستوطنين من أساسه، وبالتالي تدفعهم للهرب، ومن ثم يُفضي ذلك إلى زوال نموذج إسرائيل كدولة آمنة مستقرة، هذه هي قيمة الصواريخ. ومن قبلها البندقية والسكين والمقلاع، بل وحتى الحجر. إنَّ تعطيل الدراسة في مدارس وجامعات الكيان الصهيوني بسبب صواريخ المقاومة يعني شرخًا هائلاً في البناء الداخلي لليهود، ذلك البناء الذي صرف الصهاينة من أجل تأسيسه وتثبيته في نفوس المواطنين اليهود مليارات الدولارات. إنّ صاروخ المقاومة لا يثقب حفرة صغيرة في أرض الكيان الإسرائيلي فقط، بل يثقب الكيان الإسرائيلي بأكمله.

أمر آخر من عجائب هذه القضية، وهو الكيل بمكيالين، فبينما يحق لكل دولةٍ عربيةٍ كانت أو غير عربية أن تصوِّر حروبها التأسيسية والتحررية على أنها حروب كرامةٍ وبطولات، يكال لأهل غزة بمكيال آخر، فحربهم ومقاومتهم للمحتل حركات عبثية، وصواريخهم صواريخ ورقية، وقنابلهم ألعاب نارية، ومواقفهم البطولية متاجرة بالدماء الزكية، كيل بمكيالين، وإليكم الدليل تلو الدليل، كيف قامت هذه البلاد المباركة؟ يقول التاريخ: إن الملك عبد العزيز رحمه الله سار بأربعين رجلاً وثلاثين بندقية ومائتي ريال إلى الرياض لفتحها! أربعون رجلاً فقط ببنادق قديمة يخوضون حربًا لفتحِ مدينةٍ واسترجاع مُلْك؟! ولم نسمع أحدًا من أولئك الكتاب المنصفين يصف هذا الموقف البطولي بما وصف به المقاومة الباسلة مما ذكرته سابقًا. وفي وسط مدينة القاهرة يرتفع بناء شامخ يسمى (نصب الجندي المجهول)، أقيم هذا البناء (تكريمًا) للشهداء الذين قضوا في حرب الاستنزاف.

إذن فقد كانوا أبطالاً، ولم يكونوا حمقى ولا متهورين، بل وأكثر من هذا فالتاريخ المصريّ كان ولا يزال يتغنّى ببطولات المصريين الذين واجهوا الاستعمار الفرنسي بأسلحةٍ بدائيةٍ بعضُها السيوف والسكاكين، لقد كانوا أبطالاً إذن ولم يكونوا مستفزّين لدولة عظمى، ومثله التاريخ السوري فهو لا يزال يتغنى بمعارك الأبطال مع فرنسا، ومثله التاريخ الجزائري فلا يزال يفخر بالمليون شهيد، ومثله التاريخ الليبي الذي يكاد (يقدّس) البطل الأسطورة عمر المختار الذي واجه جبروت إيطاليا بخيلٍ وبندقية، ولم يقل عنه أحد من السابقين ولا اللاحقين ما قاله المخذلون عن إخواننا في فلسطين، وقس على هذا كل دول العالم، كلٌ يفاخر بنضال شعبه وتضحياته وبطولات رجاله ومقاوميه، كلٌ له يوم وطني يحتفل به، ويمجد فيه تلك الملاحم والبطولات، وأبدًا ودائمًا وفي كل المرات كان النضال غير متكافئ الأطراف، وسقط فيه ضحايا كثيرون وكلهم أبرياء، وحدثت بسبب ذلك كوارث ومجازر، فلماذا كانت بطولةً مخلدة في كلِ تلك الأماكن، وكان حماقةً وتهورًا في فلسطين؟! فهل يستطيع أحد من أولئك المخذلين الذين يتهمون صواريخ المقاومة أن يجيب على هذا التساؤل؟!

ولمن تنطلي عليه حكاية ضرورة توازن القوى قبل البدء بالمقاومة، فليأتنا بحالة تحررية واحدةٍ في العصر الحديث أو القديم كان فيها (المقاوِمُ) أقوى من المحتل أو حتى في مثل قوتِهِ، أين حدث مثل هذا؟! أفي فيتنام، أم في جنوب أفريقيا، أم في الهند، أم في مجمل الدول العربية، أم في فرنسا إبان حربها مع النازيين؟! أين؟!

وأخيرًا، فإنَّ المقاومة التي انتقلت من مرحلة الحجارة إلى مرحلة الصواريخ، والتي بدأت بصواريخ قصيرة لا تتعدى بضعة كيلومترات ثم تطورت شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى عمق الكيان الصهيوني، هذه المقاومة الصامدة قادرة بإذن الله على مزيد من التطوير وتقليل الفارق يومًا بعد يومٍ، حتى تهزم الاحتلال وتدحره بإذن الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين.

 

الخطبة الثانية

أيها المجاهدون الأباة، أشعر وأنا أوجه لكم هذه الرسالة أنني كمن يحاول أن يرتقي مرتقى صعبًا، فأستسمحكم عذرًا، اسمحوا لي يا مَن تنسجون مجدَ أمتِكم بخيوط سرمدية من ذهب، وتسقون شجرةَ العزِ بدمائِكم الزكية، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يا من تربعتم على هامة المجد وسطرتم بثباتكم ملحمة عظيمة يقف العالم بأسره أمامها مذهولا مشدوهًا من صمودِكم وصبركم، لقد أوجعتم العدو، ووالله إن الصهاينة يعانون كما تعانون، ويألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.

يا أهل غزة المرابطين، يا من ينطبق عليكم قول الحق جل وعلا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، يا أهل غزة المرابطين، يا أهل الشموخ والعزة، لقد ارتقيتم والله مرتقى علويًا، ونسجتم من تاريخ أمتكم قطعة لؤلؤية سرمدية، لقد سطرتم على صفحات التاريخ بمداد من دم درسًا في عزة المؤمن، فلله دركم، ولله صبركم، ولله جهادكم، ولله صمودكم، ولله بذلكم.

وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً