.

اليوم م الموافق ‏20/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

اللهم بارك في الأعمار

5858

الرقاق والأخلاق والآداب

اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

28/12/1429

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- قصر الأعمار. 2- الآجال مضروبة. 3- مفهوم زيادة العمر. 4- أسباب زيادة الأعمار. 5- التأكيد والحث على الصدقات الجارية.

الخطبة الأولى

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، بِأَيِّ شَيءٍ تُقَاسُ الأَعمَارُ؟ أَبِالدَّقَائِقِ أَم بِالسَّاعَاتِ؟! أَبِالشُّهُورِ أَم بِالسَّنَوَاتِ؟! إِن كَانَت تُقَاسُ بِذَلِكَ فَمَا أَقَلَّهَا وَمَا أَقصَرَهَا! خَاصَّةً وَقَد جَعَلَ اللهُ أَعمَارَ أُمَّةِ محمَّدٍ نِسبَةً إِلى أَعمَارِ السَّابِقِينَ قَصِيرَةً، وَقَضَى أَن تَكُونَ سَنَوَاتُهُم قِيَاسًا إِلى سَنَوَاتِ أُولَئِكَ قَلِيلَةً، قَالَ : ((أَعمَارُ أُمَّتي مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلى السَّبعِينَ، وَأَقلُّهُم مَن يَجُوزُ ذَلِكَ))، وَحَتى وَلَو عَاشَ المَرءُ مِنَ السِّنِينَ عَشَرَاتٍ أَو مِئَاتٍ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلى المَوتِ وَالفَنَاءِ، ثم يَرجِعُ إِلى اللهِ ويُرَدُّ إِلى مَولاهُ، قُلْ إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بما كُنتُم تَعمَلُونَ، وَهُنَا يَبرُزُ سُؤَالٌ: هَل يُمكِنُ أَن يُطِيلَ المَرءُ عُمُرَهُ؟ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمكِنًا فَكَيفَ يَكُونُ؟

فيُقَالُ ابتِدَاءً: لَقَد قَضَى اللهُ لِكُلِّ إِنسَانٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ سِنِينَ مَعدُودَةً وَجَعَلَ لَهُ عُمُرًا مُحَدَّدًا، قَالَ سُبحَانَهُ: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتِي لم تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيهَا المَوتَ وَيُرسِلُ الأُخرَى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَقَالَ تَقَدَّسَ اسمُهُ: وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا زَوجِ النَّبيِّ قَالَت: اللّهُمَّ أَمتِعْني بِزَوجِي رَسُولِ اللهِ، وَبَأبي أَبي سُفيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: ((سَأَلتِ اللهَ لآجَالٍ مَضرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعدُودَةٍ وَأَرزَاقٍ مَقسُومَةٍ، لَن يُعَجَّلَ شَيءٌ مِنهَا قَبلَ أَجَلِهِ وَلا يُؤَخَّرُ، وَلَو كُنتِ سَأَلتِ اللهَ أَن يُعِيذَكِ مِنَ النَّارِ وَعَذَابِ القَبرِ كَانَ خَيرًا وَأَفضَلَ)).

وَمَعَ هَذَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَقَد وَرَدَ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِبَعضِ الأَعمَالِ، قَالَ تَعَالى عَن نَوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ: أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَصَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ)). وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ في مَفهُومِ هَذِهِ الإِطَالَةِ وَالزِّيَادَةِ، إِلاَّ أَنَّ ممَّا لا شَكَّ فِيهِ مِصدَاقًا لِلأَدِلَّةِ أَنَّ العُمُرَ يُزَادُ فِيهِ بِأَعمَالٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ البَرَكَةُ في الوَقتِ وَالذِّكرُ الجَمِيلُ لَكَفَى بِهِمَا مَكسَبًا، فَإِنَّكَ تَرَى الرَّجُلَينِ يَعِيشَانِ في الدُّنيَا سَنَوَاتٍ مُتَسَاوِيَةً ويَتَمَاثَلانِ في العُمُرِ، وَلَكِنّ بَينَهُمَا مِنَ الفَرقِ كَمَا بَينَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، فَفِي حِينِ يَمُوتُ ذِكرُ أَحَدِهِمَا بِمُجَرَّدِ دَفنِهِ، فَإِنَّ الآخَرَ يَظَلُّ حَيًّا كَأَنَّهُ لم يَغِبْ عَنِ الأَنظَارِ سَاعَةً، إِمَّا بِعِلمِهِ وَأَعمَالِهِ المُشَرِّفَةِ، أَو بِطُلاَّبِهِ أَو أَبنَائِهِ الصَّالحِينَ، أَو بِمَا وَقَفَهُ وَوَهَبَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَلَنَا أَن نَتَفَكَّرَ كَم هُمُ الَّذِينَ عَاصَرُوا الأَئِمَّةَ أَبَا حَنِيفَةَ ومَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحمَدَ، وَكَم هُمُ الَّذِينَ عَاشُوا مَعَ ابنِ تِيمِيَّةَ وَابنِ القَيِّمِ وَابنِ كَثِيرٍ وابنِ حَجَرٍ، وَأَمثَالِهِم مِنَ السَّالِفِينَ وَالمُعَاصِرِينَ كَالإِمَامِ محمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ وَالشَّيخِ ابنِ بَازٍ وَابنِ عُثِيمِينَ عَلَيهِم جميعًا رَحمَةُ اللهِ وَلَكِنْ، مَنِ الَّذِي يَذكُرُهُ النَّاسُ في كُلِّ يَومٍ وَيُثنُونَ عَلَيهِ وَيَتَرَحَّمُونَ وَيَدعُونَ لَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي قَد مَاتَ ذِكرُهُ بِمُجَرَّدِ مَوتِهِ فَنُسِيَ؟ وَقَد قَالَ لَمَّا مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا خَيرٌ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت))، وَمُرَّ بِأُخرَى فَأُثنِيَ عَلَيهَا شَرٌّ فَقَالَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت))، فَقَالَ عُمَرُ : فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا خَيرٌ فَقُلتَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت))! وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثنِيَ عَلَيهَا شَرٌّ فَقُلتَ: ((وَجَبَت وَجَبَت وَجَبَت))! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَن أَثنَيتُم عَلَيهِ خَيرًا وَجَبَت لَهُ الجَنَّةُ، وَمَن أَثنَيتُم عَلَيهِ شَرًّا وَجَبَت لَهُ النَّارُ، أَنتُم شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ)).

وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَعَرَّفَ الأَعمَالَ الَّتي تَطُولُ بِسَبَبِهَا الأَعمَارُ وَتَحُلُّ بِفِعلِهَا البَرَكَةُ فِيهَا، فَيَأخُذَ بها لِتَتَضَاعَفَ حَسَنَاتُهُ وَلا تَنقَطِعَ أَعمَالُهُ الصَّالِحَةُ بِمَمَاتِهِ، وَقَد جَعَلَ اللهُ بِفَضلِهِ هَذِهِ الأَعمَالَ كَثِيرَةً وَمُتَنَوِّعَةً، لِيَأخُذَ كُلُّ امرِئٍ مِنهَا بما يُنَاسِبُ حَالَهُ وَيُوَافِقُ قُدرَتَهُ، وَهِيَ أَنوَاعٌ:

الأَوَّلُ: مَا جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ يُطِيلُ العُمُرَ: وَمِنهُ مَا تَقَدَّمَ مِن قَولِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ في العُمُرِ إِلاَّ البِرُّ))، وَقَالَ: ((مَن أَحَبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَأَن يُنسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))، وَقَالَ: ((صَدَقَةُ السِّرِّ تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمُرِ، وَفِعلُ المَعرُوفِ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ))، وَقَالَ: ((صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسنُ الخُلُقِ وَحُسنُ الجِوَارِ يَعمُرنَ الدِّيَارَ وَيَزِدنَ في الأَعمَارِ)).

النَّوعُ الثَّاني: الأَعمَالُ المُضَاعَفَةُ: حَيثُ يَعمَلُ المَرءُ العَمَلَ القَلِيلَ الَّذِي لا يُكَلِّفُهُ مِنَ الوَقتِ شَيئًا كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا يُثَابُ عَلَيهِ الأَجرَ الكَثِيرَ، وَقَد وَرَدَ مِن ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ يَضِيقُ المَقَامُ عَن حَصرِهَا، وَلَكِنَّ في ذِكرِ بَعضِهَا حَادِيًا لِلقُلُوبِ لِلتَّعَلُّقِ بِرَبِّهَا وَالإِكثَارِ ممَّا يُقَرِّبُهَا مِنهُ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشرِينَ دَرَجَةً))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن صَلَّى في يَومٍ وَلَيلَةٍ ثِنتَي عَشرَةَ رَكعَةً بُنيَ لَهُ بَيتٌ في الجَنَّةِ: أَربَعًا قَبلَ الظُّهرِ وَرَكعَتَينِ بَعدَهَا، وَرَكعَتَينِ بَعدَ المَغرِبِ وَرَكعَتَين بَعدَ العِشَاءِ، وَرَكعَتَينِ قَبلَ صَلاةِ الغَدَاةِ))، وَقَالَ: ((يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ: فَكُلُّ تَسبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجزِئُ مِن ذَلِكَ رَكعَتَانِ يَركَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى))، وَقَالَ: ((صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ إِني أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتي بَعدَهُ، وَصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ إِني أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((شَهرُ الصَّبرِ وَثَلاثَةُ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهرٍ صَومُ الدَّهرِ))، وَقَالَ: ((مَن صَامَ رَمَضَانَ وَأَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهرَ))، وَعَن جُوَيرِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ النَّبيَّ خَرَجَ مِن عِندِهَا ثم رَجَعَ بَعدَ أَن أَضحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: ((مَا زِلتِ عَلَى الحَالِ الَّتي فَارَقتُكِ عَلَيهَا؟)) قَالَت: نَعَمْ، قَالَ النَّبيُّ : ((لَقد قُلتُ بَعدَكِ أَربَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَو وُزِنَت بما قُلتِ مُنذُ اليَومِ لَوَزَنَتهُنَّ: سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ، عَدَدَ خَلقِهِ وَرِضَاءَ نَفسِهِ وَزِنَةَ عَرشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ في يَومٍ مائَةَ مَرَّةٍ كَانَت لَهُ عَدلَ عَشرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَت عَنهُ مائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَت لَهُ حِرزًا مِنَ الشَّيطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتى يُمسِيَ، وَلم يَأتِ أَحَدٌ بِأَفضَلَ ممَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكثَرَ مِنهُ))، وَعَن سَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: ((أَيَعجزُ أَحَدُكُم أَن يَكسِبَ كُلَّ يَومٍ أَلفَ حَسَنَةٍ؟)) فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِن جُلَسَائِهِ: كَيفَ يَكسِبُ أَحَدُنَا أَلفَ حَسَنَةٍ؟! قَالَ: ((يُسَبِّحُ مائَةَ تَسبِيحَةٍ، فَيُكتَبُ لَهُ أَلفُ حَسَنَةٍ أَو يُحَطُّ عَنهُ أَلفُ خَطِيئَةٍ))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن صَلَّى عَلَيَّ مِن أُمَّتي صَلاةً مُخلِصًا مِن قَلبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ بها عَشرَ صَلَوَاتٍ، وَرَفَعَهُ بها عَشرَ دَرَجَاتٍ، وَكَتَبَ لَهُ بها عَشرَ حَسَنَاتٍ وَمَحَا عَنهُ عَشرَ سَيِّئَاتٍ))، وَقَالَ: ((مَنِ استَغفَرَ لِلمُؤمِنِينَ وَلِلمُؤمِنَاتِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ حَسَنَةً)).

النَّوعُ الثَّالِثُ: الأَعمَالُ الَّتي تَحُتُّ الخَطَايَا وَتُكَفِّرُ الذُّنُوبَ:

قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَن تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَت خَطَايَاهُ مِن جَسَدِهِ حَتى تَخرُجَ مِن تَحتِ أَظفَارِهِ))، وَقَالَ: ((أَلا أَدُلُّكُم عَلَى مَا يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ مِنَ الخَطَايَا وَيَزِيدُ في الحَسَنَاتِ؟ إِسبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكرُوهَاتِ، وَكَثرَةُ الخُطَا إِلى المَسَاجِدِ، وَانتِظَارُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ))، وَقَالَ: ((مَن سَبَّحَ اللهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَتِلكَ تِسعٌ وَتُسعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ غُفِرَت خَطَايَاهُ وَإِن كَانَت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ))، وَقَالَ: ((تَابِعُوا بَينَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ))، وَقَالَ: ((إِنَّ المُؤمِنَ إِذَا لَقِيَ المُؤمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَت خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ)).

النَّوعُ الرَّابِعُ: الأَعمَالُ الَّتي لا يَنقَطِعُ ثَوَابُهَا بِانتِهَاءِ العُمُرِ وَانقِطَاعِ العَمَلِ: وَمِنهَا: الأَبنَاءُ الصَّالِحُونَ، وَالعِلمُ النَّافِعُ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ، وَتَوقِيفُ المَنَافِعِ العَامَّةِ، وَالصَّدَقَاتُ الجَارِيَةُ، في الحَدِيثِ: ((إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ))، وَقَالَ: ((إِنَّ ممَّا يَلحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعدَ مَوتِهِ: عِلمًا نَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكهُ، وَمُصحَفًا وَرَّثَهُ، أَو مَسجِدًا بَنَاهُ، أَو بَيتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَو نَهَرًا أَجرَاهُ، أَو صَدَقَةً أَخرَجَهَا مِن مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلحَقُهُ مِن بَعدِ مَوتِهِ)).

فَاحرِصُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى مَا تَحُلُّ بِهِ البَرَكَةُ في أَوقَاتِكُم وَتُطَالُ بِهِ أَعمَارُكُم، فَإِنَّ الأَعوَامَ تَجرِي وَالسَّنِينَ تَذهَبُ، وَهَا أَنتُمُ تُوَدِّعُونَ عَامًا مَضَى كَأَنَّهُ شَهرٌ، وَتَستَقبِلُونَ عَامًا لَعَلَّكُم لا تَستَكمِلُونَهُ، فَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مَا تَرجُونَ بِهِ نَجَاتَكُم، وَأَخلِصُوا للهِ وَتَابِعُوا نَبِيَّهُ تُقبَلْ أَعمَالُكُم.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم وَكُلَّ شَيءٍ أحصَينَاهُ في إِمَامٍ مُبِينٍ.

 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقوَى، وَخَافُوهُ في السِّرِّ وَالنَّجوَى، وَاعمَلُوا صَالِحًا يُبَلِّغْكُم جَنَّةَ المَأوَى.

أيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمَعَ أَهَمِيَّةِ مَا ذُكِرَ مِن أَعمَالٍ صَالِحَةٍ في إِطَالَةِ العُمُرِ، إِلاَّ أَنَّ لَنَا وَقفَةً مَعَ النَّوعِ الرَّابِعِ، وَهِيَ الأَعمَالُ المُتَعَدِّي نَفعُها البَاقِي أَثَرُهَا، إِذ إِنَّ مَا ذُكِرَ مِن فَضَائِلِ الأَعمَالِ في الأَنوَاعِ الَّتي قَبلَهَا وَإِن كَانَت كَثِيرَةً وَأُجُورُهَا مُضَاعَفَةٌ، إِلاَّ إِنَّهَا ممَّا يَنقَطِعُ بِانقِطَاعِ النَّفَسِ وَخُرُوجِ الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ، أَمَّا الأَعمَالُ المُتَعَدِّيَةُ النَّفعِ، مِن تَعلِيمِ العِلمِ وَتَربِيَةِ الأَبنَاءِ تَربِيَةً صَالِحَةً، وَتَوقِيفِ المَنَافِعِ وَبِنَاءِ المَسَاجِدِ، وَطِبَاعَةِ الكُتُبِ وَنَشرِ المَصَاحِفِ وَنَحوِهَا، فَإِنَّهَا تَدُومُ أَعوَامًا طَوِيلَةً وَتَبقَى سِنِينَ عَدَدًا، وَقَد تَفنى أَجيَالٌ بَعدَ أَجيَالٍ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَتَذهَبُ دُوَلٌ وَتَجِيءُ دُوَلٌ وَهِيَ شَامِخَةٌ، وَهَا أَنتُمُ تَرونَ مِنَ الجَوَامِعِ وَالمَسَاجِدِ وَالمَدَارِسِ وَالأَربِطَةِ في العَالَمِ الإِسلامِيِّ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ممَّا مَرَّ قُرُونٌ عَلَى بِنَائِهَا وَإِنشَائِهَا، وَمَاتَ مُنشِؤُوهَا وَغَبَرُوا، وَلا تَزَالُ تُؤَدِّي دَورَهَا كَمَا هِيَ عِندَمَا بُنِيَت وَقَد تَزِيدُ، وَقُولُوا مِثلَ ذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ الكُتُبِ وَالمُجَلَّدَاتِ الَّتي أُلِّفَت مُنذُ مِئَاتِ السِّنِينَ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَنهَلُونَ مِنهَا عِلمًا وَتقَوَى، وَيَزدَادُونَ بِقِرَاءَتِهَا إِلى اللهِ زُلفَى، فَيَا للهِ كَم مِنَ الحَسَنَاتِ صَبَّت في مِيزَانِ مَن أَنشَؤُوا تِلكَ المَسَاجِدِ وَالأَوقَافِ أَو شَارَكُوا في إِنشَائِهَا، أَو مَن أَلَّفُوا تِلكَ الكُتُبَ أَو طَبَعُوهَا، كَم تَعَلَّمَ مُسلِمٌ مِن حُكمٍ شَرعِيٍّ فَعَمِلَ بِهِ، كَم صَلَّى مُصَلٍّ مِن رَكعَةٍ، كَم تَلا تَالٍ مِن حَرفٍ مِن كِتَابِ اللهِ، كَم رُفِدَ مِن ضَعِيفٍ وَأُعِينَ مِنِ ابنِ سَبِيلٍ، كَم كُفِلَ مِن يَتِيمٍ وَكَم رُعِيَت مِن أَرمَلَةٍ، أُجُورٌ وَحَسَنَاتٌ لا يُحصِيهَا إِلاَّ مَن أَحصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا، فَهَنِيئًا لأُولَئِكَ المُحسِنِينَ المُنفِقِينَ وَالعُلَمَاءِ العَامِلِينَ، هَنِيئًا لِمَن بَنى مَسجِدًا، هَنِيئًا لِمَن أَوقَفَ مُصحَفًا، هَنِيئًا لِمَن طُبِعَ عَلَى نَفَقَتِهِ كِتَابٌ أَو شَرِيطٌ، هَنِيئًا لِمَن أَنشَأَ دَارًا خَيرِيَّةً أَو حَلَقَةَ قُرآنٍ، أَو حَفَرَ بِئرًا أَو دَعَمَ مَركَزًا دَعَوِيًّا، وَيَا لَخَسَارَةِ مَن رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلم يُشَارِكْ في شَيءٍ مِن ذَلِكَ بما يَستَطِيعُ.

فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ بَينَ أَيدِيكُم الآنَ مِنَ المُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةِ مَا يُهَيِّئُ لَكُمُ الفُرَصَ الثَّمِينَةَ لِتُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمُ الشَّيءَ الكَِثيرَ، بَينَ أَيدِيكُم جَمعِيَّاتُ البِرِّ وَجَمعِيَّاتُ التَّحفِيظِ فَلا تَنسَوهَا، وَهُنَا مَكَاتِبُ الدَّعوَةِ وَالتَّوعِيَةِ فَادعَمُوهَا، وَثَمَّةَ مَسَاجِدُ تُعمَرُ وَأَوقَافٌ تُنشَأُ فَسَاهِمُوا فِيهَا. وَقَد رَأَينَا في عَصرِنَا الحَاضِرِ ـ وَللهِ الحَمدُ ـ صُوَرًا مُشرِقَةً تُجتَلَى، وَمَوَاقِفَ مُشَرِّفَةً تُقتَفَى، أَبطَالُهَا أَجوَادٌ مُحسِنُونَ، بَذَلُوا بِكَرَمٍ وَأَنفَقُوا بِسَخَاءٍ، وَأَرخَصُوا أَموَالاً لَهُم مُبَارَكَةً، تَعَلَّمَ بها أَبنَاءُ المُسلِمِينَ وَسُتِرَت بَنَاتُهُم، وَسُدَّت بها جَوعَاتٌ وَقُضِيَت حَاجَاتٌ، وَرُفِعَ بها جَهلٌ وَنُشِرَ عِلمٌ، وَأَسلَمَ بِسَبَبِهَا كُفَّارٌ وَاهتَدَى ضَالُّونَ، وَنُشِرَت بِفَضلِهَا سُنَنٌ وَقُمِعَت بِدَعٌ، وَظَهَرَ خَيرٌ وَازدَهَرَ مَعرُوفٌ، وَتَوَارَى شَرٌّ وَاندَحَرَ مُنكَرٌ. فَهَيَّا ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِلى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، سَارِعُوا وَسَابِقُوا، وَاضرِبُوا لأَنفُسِكُم في كُلِّ مَجَالٍ مِن مَجَالاتِ البِرِّ بِسَهمٍ، وَادخُلُوا مَعَ كُلِّ بَابٍ مِن أَبوَابِ الخَيرِ مَا استَطَعتُم، وَاحرِصُوا عَلَى مَا تَستَمِرُّ بِهِ حَسَنَاتُكُم وَيَتَدَفَّقُ نَهرُهَا، وَاعلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَلِذَا فَإِنَّ في الاستِقطَاعِ الشَّهرِيِّ مِنَ الرَّوَاتِبِ عَلَى الجَمعِيَّاتِ وَمَكَاتِبِ الدَّعوَةِ خَيرًا كثيرًا، فَلا تَحرِمُوا أَنفُسَكُم وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا، وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِلْ قَومًا غَيرَكُم ثم لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً