عباد الله، إن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله ، فهم يترضون عن الصحابة جميعًا، ولا يحملون غلاً في قلوبهم لأحد منهم كما هو حال الذين في قلوبهم مرض، لا يسبون أحدا منهم، ويكفون عما شجر بينهم من خلاف، ويعتقدون أنهم جميعًا مجتهدون، فالمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد وذنبه مغفور بفضل سابقته وجهاده مع رسول الله ، فلهم من الحسنات الماحية للسيئات الشيء الكثير.
فما الذي جعل أصحاب النبي بهذه المكانة العالية؟ سوف نذكر في هذه العجالة بعض تلك الصفات:
أولاً: المدح الكثير والعظيم لهم في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، بحيث يتعذر جمع كل ما قيل فيهم رضي الله عنهم:
فعلى سبيل المثال قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنه قد رضي على المهاجرين والأنصار، وأنه أعد لهم الجنة، ولذلك فأهل السنة والجماعة إذا ذكروا أحدًا من أصحاب النبي ترضوا عليه، قال ابن كثير رحمه الله: "فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم".
ومن ذلك قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 18، 19]. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر لأن العبرة بالوفاة على الإسلام.
وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]، يقول ابن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا لقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، فثبت أن جميعهم من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحد منهم النار".
وأما من قول النبي فقد ثبت عنه أنه قال: ((لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)) رواه مسلم، وقال : ((خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه البخاري، وقوله : ((لا تسبوا أحدا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه، وقوله : ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) رواه الترمذي، وقوله : ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبتْ النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) رواه مسلم، وعنه أنه قال: ((يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) رواه البخاري.
ثانيا: من أسباب شرف الصحابة وعلو قدرهم قوة الإيمان واليقين الجازم بصدق ما جاء به النبي :
حضر أبا ذر رضي الله عنه الموتُ وهو بالربذة، فبكت امرأته لأنه لا أحد معها، فقال لها أبو ذر: فلا تبكي، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين))، وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الذي أموت بفلاة؟! والله ما كذب ولا كذبت فأبصري الطريق. فبينما هي كذلك إذا هي بنفر، فألاحت بثوبها فأقبلوا، قالوا: ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت، تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم حتى جاؤوه، فقال: أبشروا، فحدثهم الحديث الذي قال رسول الله .
ثالثا: كثرة الابتلاءات والمعارك التي خاضوها مع رسول الله وبعده:
لقد خاض النبي خمسا وعشرين معركة في عشر سنين، وهو ما يعني أن كل عام كان فيه معركتان، هذا خلاف السرايا التي كان يرسلها النبي والتي تزيد على مائة سرية. فلك أن تتصور حجم التعب والألم الذي حصل لهم بسبب هذه المعارك، وحجم القتل الذي استحر فيهم، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يقاتلون آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم.
رابعا: التحمل الشديد للعذاب في سبيل هذا الدين:
فعن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم يجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به. وعن أبي جهاد رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي ، فقال له ابنه: يا أبتاه، رأيتم رسول الله وصحبتموه والله لو رأيته لفعلت، فقال له أبوه: اتق الله وسدد، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتنا ليلة الخندق وهو يقول: ((من يذهب فيأتينا بخبرهم جعله الله رفيقي يوم القيامة؟)) فما قام من الناس أحد من صميم ما بهم من الجوع والقر حتى نادى في الثالثة: ((يا حذيفة)). وما قصة آل ياسر وبلالٍ وصهيبٍ وخبابٍ عنا ببعيد.
خامسا: حبهم الشديد للجهاد في سبيل الله:
فقد دخل عمر رضي الله عنه المسجد والنعمان بن مقرن رضي الله عنه يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، فقال النعمان: أما جابيا فلا ولكن غازيا، قال عمر: فأنت غاز، فوجهه إلى أصبهان، فلما وصل وجمع جنده قال لهم: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى: فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية: فنظر رجل في سلاحه وفي نعله فأصلحه، وأما الثالثة: فاحملوا على العدو، وإني داع بدعوة فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها: اللهم أعط اليوم النعمان شهادة في نصر المسلمين وافتح عليهم، فكان أولَ صريع، وفي رواية قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله، فأمّنا وبكينا.
لما خرج رسول الله إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه، فأمر النبي أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله إلى بدر فقتله عمرو بن عبد وُدّ.
سادسا: الإنفاق بلا حدود في سبيل الله عز وجل:
فقد بعث النبي إلى عثمان رضي الله عنه يستعينه في جيش العسرة، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فصبت بين يديه فجعل النبي يقلبها بين يديه ويقول: ((غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا)). وبينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء، قال: وكانت سبعمائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول: ((قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا))، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال: لئن استطعت لأدخلنها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
سابعا: الحب الخالص لرسول الله :
فهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه رفعه المشركون على خشبة ليصلبوه، فنادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، فضحكوا ثم قتلوه. وكذا قال زيد بن الدثنة رضي الله عنه وقد اجتمع رهط من قريش لقتله فيهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان حين قدم للقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا فنضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتلوه.
وفي غزوة أحد كسرت رباعيتة النبي وشج وجهه ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع في حفرة، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبد الله حتى استوى قائما، وكان بجانبه مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري فرأى الدم يسيل على وجهه ، فخشي أن يصيب عينيه، ولم يكن معه ما يمسح به الدم فمصه كله عن وجه رسول الله ، ولم يشأ أن يمج دم رسول الله في الأرض، فابتلعه رضي الله عنه، فقال رسول الله : ((من مس دمي دمه لم تصبه النار)).
وهذه امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نعوا لها أباها قالت: فما فعل رسول الله ؟ ثم نعوا أخاها فقالت: فما فعل رسول الله ، ثم نعوا لها زوجها فقالت: فما فعل رسول الله قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي: صغيرة.
وهناك من الصفات الشيء الكثير، تركناها خشية الإطالة، كالرحمة فيما بينهم، والعلم بالكتاب والسنة، والزهد في الدنيا، وكثرة العبادة، وسمو الأخلاق، والطاعة المطلقة لرسول الله ، وعسى الله أن ييسر لها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
|