أما بعد: أيها المؤمنون، قبل ألف عام ومائتين تقريبًا مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك يقال له محمد بن حميد الطوسي، فرثاه الشاعر العباسي المعروف أبو تمام بقوله:
كذا فليجل الْخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض مـاؤها عذر
توفيـت الآمـال بعـد مُحمـد وأصبح في شغل عن السفر السفر
كـأن بني نبهـان يـوم وفـاته نُجوم سَماء حط من بينها البـدر
مضى طاهر الأثواب لَم تبق روضة غداة مضى إلا اشتهت أنَّهـا قير
عليـك سـلام الله وقفًـا فإننِي رأيت الكريم الْحر ليس لـه عمر
فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمدٍ ، فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين ؟! لا ريب أن الحديث عن وفاته لا يحتاج إلى بليغٍ تهتز له المنابر، ولا يحتاج إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائر، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن وفاة حبيبنا الذي بلغ دين الله وأرشد إليه وناجى ربه ودعا إليه صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون، في آخر العام التاسع بدأ يشعر بدنو أجله وقرب رحيله وفراقه لمن حوله، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه عليه الصلاة والسلام ودّع معاذًا لما بعثه إلى اليمن ومعاذ على راحلته وهو يمشي يقود الناقة، وأوصاه بما يفعله في الدعوة، ثم قال: ((يا معاذ لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ لعلك تمر على قبري ومسجدي))، ثم ودعه عليه الصلاة والسلام.
وفي خطبة عرفة كان يقول بعد كل مقطع من خطبته: ((ألا هل بلغت؟)) فيقول أصحابه: نعم، فيقول: ((اللهم فاشهد))، حتى إنه كان واضحًا معهم وهو إمام المخلصين: ((أيها الناس، إنكم ستسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟)) فقالوا: نشهد أنك بلّغت الرسالة وأديت الأمانة ووفيت وأديت الذي عليك كله، ثم رفع سبابته إلى السماء ثم نكتها إلى الأرض ثم قال: ((اللهم فاشهد)).
وكان يودع الناس شاعرًا بقرب أجله ودنو رحيله، وخرج ليلةً مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع يستغفر لهم ثم قال: ((يا أبا مويهبة، إن الله خيرني بين أن أعطى مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة))، فقاطعه أبو مويهبة وقال: بأبي أنت وأمي، اختر مفاتيح الأرض والخلد فيها ثم الجنة، فقال : ((لا والله يا أبا مويهبة، ولكني اخترت لقاء ربي ثم الجنة)).
ثم رجع وقد أحس بصداعٍ في رأسه، فدخل على عائشة فقالت: وا رأساه! فقال: ((بل أنا وا رأساه))، أخبر عن مرضه وعن الصداع الذي أصابه، ثم أخذ يشتد عليه الصداع مع الحمى تصيبه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئًا فشيئًا، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي إلى بيوت نسائه كلهن، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث اشتد عليه وجعه، فاستأذن أزواجه أن يكون في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذنّ له، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة رضي الله عنها تخط رجلاه على الأرض متكئًا على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما حتى أتى إلى بيت عائشة، فمكث في بيتها يشتد عليه المرض شيئًا فشيئًا وهو يشعر بدنو أجله، فأخذ يصنع أشياء يودِّع بها الناس وتبرأ بها ذمته، فإنه لما ثقل عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قرب من ماء لم تحل أوكيتهن، ثم خرج إلى الناس عاصبًا رأسه، فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ في خطبته صلى على شهداء أحد واستغفر لهم وفاءً لهم ثم قال: ((أيها الناس، من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليقتصّ منه))، فقام عكاشة بن محصن أمام الناس قائلاً: يا رسول الله، أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتصّ منك، وذلك أنك يوم كنت تسوي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصًا كانت في يدك في خاصرتي، وقد آلمتني، وأنت عرضت نفسك للقصاص، فقام علي فقال: أنا في القصاص فداءً له، فقال : ((لا يا علي، بل يقتص مني))، فأمر بالعصا التي كانت معه فأُتِيَ بها، ورفع عكاشة العصا في يده واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد، موقف من أشد المواقف على أصحاب محمد حبيبهم في مرضه الشديد وصحابي يقتص منه أمام الناس، فلما وصل عكاشة بن محصن إلى المنبر ألقى العصا من يده ثم ضم الجسم الشريف ومرّغ وجهه في وجه النبي وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: جسمي لجسمك فداء، فضجّ المسجد بالبكاء.
ثم أوصى الناس بالأنصار خيرا وفاءً لهم فقال: ((فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم))، ثم أوصى بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم أوصى بالصلاة وقال: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم))، ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أبيائهم مساجد))، ثم قال: ((إن عبدًا خيّره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر ، وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((على رسلك يا أبا بكر))، ثم التفت يبيّن لهم فضل ومكانة أبي بكر فقال: ((إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقينّ في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر))، فلما انتهى من ذلك صلى بهم الظهر، ثم رجع إلى بيته يزداد عليه المرض شيئًا فشيئًا، ثم دخلت عليه فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت، ثم سارّها بشيء فضحكت، ثم سئلت عن ذلك بعد فأخبرها في الأولى أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقًا به وأنها سيدة نساء أهل الجنة فضحكت رضي الله عنها.
ثم إنه قبل وفاته بأربعة أيام أعتق غلمانه وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ثم مكث المرض يشتدّ عليه فكان يغيب أحيانًا ويفيق أحيانًا من شدة الحمى التي كانت تصيبه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته، فأوصت من يدعو عمر أن يصلي بهم، فصلى بهم عمر فسمع ذلك رسول الله فقال: ((يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلينّ بالناس إلا أبا بكر)) كالإشارة إلى استخلافه من بعده. ثم ثقل عليه المرض وبقي أبو بكر يصلي بهم حتى خرج عليهم رسول الله ذات يوم ووجدهم يصلون خلف أبي بكر، فأشار إلى أبي بكر أن ابق مكانك، فلم يقبل فرجع أبو بكر، فلما فرغ من الصلاة قال لأبي بكر: ((ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟)) فقال أبو بكر: ما كان لأبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله ، ثم عاد إلى بيته يشتدّ عليه الوجع ويرى من الكرب ما الله به عليم.
حتى كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول استهل ذلك اليوم أن الناس كانوا في صلاة الفجر فإذا به يكشف الستار الذي كان بينهم وبين بيت عائشة رضي الله عنها، فلما رآه الصحابة متهللاً وجهه كأنه ورقة مصحف كادوا أن يفتتنوا ظنًا منهم أنه برئ، فهمّ أبو بكر أن يرجع فأشار إليهم أن ابقوا مكانكم، ونظر إليهم نظرة مودع، إنها النظرة الأخيرة التي لن يراها أصحابه وأحباؤه بعدها في الدنيا، إنها طلّة الفراق لن ينعموا بعدها برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا أبدًا بعد هذا اليوم، ثم رجع إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت))، ثم دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال فقالت: وا كرب أبتاه! فقال وهو العارف بربه: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))، ودخل عليه أسامة وأشار إليه أن ادع لي، فلم يستطع أن يدعو له بلسانه ولكنه رفع يديه يدعو لأسامة في سره. ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن وحدّ البصر في عبد الرحمن، ففهمت عائشة أنه يريد السواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أن نعم، فأخذت السواك من أخيها ومضغته ولينته ثم أعطته رسول الله كآخر عمل يصنعه في حياته، ثم أرجعه ورفع إصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه وأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اغفر لي وارحمني، بل الرفيق الأعلى)) كررها ثلاثًا حتى كان آخر ما قال: ((بل الرفيق الأعلى))، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه.
إنا لله وإنا إليه راجعون، مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر والبر والفاجر والصغير والكبير، مات من كان للأيتام أبا، مات من كان للأرامل عونًا وسندا، مات نبي الأمة وقدوة الخلق، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار وتشنفت بسماع صوته وجميل حديثه الأسماع والآذان، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30، 31].
|