أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله هي طريقُ النجاة والسلامة وسبيل الفوز والكرامة، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72].
أيها المسلمون، إننا نتقلب في هذه الأيام في نعم من الله زاخرة وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضرّ، فتح الله لنا برحمته أبواب السماء، فعمّ بخيره الأرض، وانتفع العباد.
إنه لا يخفى على أحد ما حصل من الضرر بتأخر نزول الغيث في الأعوام الماضية، فالآبار قد نضبت، والثمار قد ذبلت، والمواشي قد هزلت، ومعها القلوب قد وجفت. كاد اليأس أن يصيب بعض القوم لما رأوا في مزارعهم وديارهم، فإذا بالرحيم سبحانه ينزل بعض رحمته، فتنهمر السماء، وترتوي الصحراء، فلا إله إلا الله، ما أعظم جوُدَهُ! ما أكرم عطاءه! وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28].
عباد الله، إن إنزال الغيث نعمة من أعظم النعم وأجلها، امتن بها سبحانه على عباده، وأشاد بها في كتابه، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22].
أيها المسلمون، إن مما يدل على عظم نعمة الغيث تلك الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فأحيانًا يصف الماء بالبركة، وأحيانًا يصفه بالطهر، وأحيانًا بأنه سبب الحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق: 9]، ويقول سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل: 65].
عباد الله، لما كان كثير من الناس ينظر إلى نعمة الغيث نظر بصر مجرد غفلوا عن أشياء كثيرة، وفاتهم غيث القلوب، وهو النظر إلى تلك النعمة بنظر البصيرة والاعتبار بهذه الآية العظيمة؛ ففي هذا الغيث مواطن للعبر وآيات للتذكر، ومن أبرزها أنه دليل باهر وبيانٌ قاهر على توحيد الله وعظيم أمره وجليل سلطانه، لو اجتمع الإنس والجن والملائكة وأرادوا إنزال قطرة غيث واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإذا أراد الله أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون.
ينشئ المولى سبحانه السحاب فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم وفي أوقات معلومة بتقدير العزيز العليم، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: ليس عام أكثر مطرًا من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ الآية [الشورى: 27].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر: "فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدةٌ في الطريق الذي رُسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرةً قطرةً، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداهُ إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرةً واحدةً أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه"، ثم قال رحمه الله: "فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش"، فتبارك الله أحسن الخالقين ورب العالمين.
عباد الله، ومن الآيات والعبر في نزول المطر أنه دليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى وإثبات البعث والنشور، فالذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الموتى بعد مفارقتهم للحياة، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39]، وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9].
أيها المسلمون، إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته، فكلُنا يعلمُ أن بلادنا ليس بها أنهار، وأنها تعتمد بعد الله في بعض شؤونها على مياه الآبار التي تغذيها الأمطار، فعلينا أن نقوم بشكره سبحانه على نعمته، وأن نستعين بها على طاعته، فإن من قام بشكر الله زاده الله، ومن كفر بنعمة الله حرمه الله، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
إن إنزال المطر ـ عباد الله ـ ليس بالتأكيد أن يكون دليل رضًا من الله عن خلقه، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر صباح مساء وعلى مدار العام، فالمطر قد ينزل إنعامًا، وقد ينزل استدراجًا، وقد يكون رحمة، وقد يكون عذابًا.
لقد أهلك الله بهذا المطر أقوامًا تمردوا على شرعه وتنكروا لهديه، قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 9-16].
عباد الله، إن من مظاهر كفران نعمة إنزال المطر التشبهَ بأهل الجاهلية في نسبة إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وغيرها من الأسباب، عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله الصبح بالحديبية على أثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ما قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، ومن كفران النعم أيضًا تسخير هذه النعمة في معصية الله تعالى، حيث يخرج البعض من الناس بعد نزول المطر إلى المتنزهات والصحاري مصطحبين منكراتهم ومعاصيهم من أنواع اللهو المحرم، يعصون الله في أرضه، ويستمتعون بنعمته، بل كثير من أولئك وللأسف يضيعون الصلاة أو يؤخرونها عن وقتها، وقد يصطحبون معهم أطباق الفضائيات ومختلف الآلات، مع إهمال واضح للبنين والبنات، وتبرجُ النساء وعدم الاحتشام في تلك الرحلات أمر لا يخفى.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وخذوا على أيدي السفهاء، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]. يقول مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية بن آدم".
اللهم اجعل ما أنزلته علينا عونًا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل...
|