أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، فما خاب من اتقاه، وهي وصية الله للأولين والآخرين حيث يقول تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء: 131]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
عباد الله، إن من الأمور المهمة التي شرعها الله بين الخلق وجعلها من الصفات المحمودة بينهم وعليها ترتكز حياة الأمة أداءَ الأمانة؛ إذ إن الأمانة هي الرابطة بين الناس في أداء الحقوق والواجبات، ولا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع، ولا بين غني وفقير وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير وواجب الموظف ورأس مال التاجر وسبب شهرة الصانع وسر نجاح العامل والزارع ومفتاح كل تقدم بإذن الله ومصدر كل سعادة ونجاح بفضل الله، وإن مجتمعًا يفقد هذه الصفة الشريفة لهو من أفسد المجتمعات، ويكون ذلك في آخر الزمان؛ إذ إن الأمانة موجودة في الناس عن طريق الفطرة والوحي، ثم تقبض منهم لسوء أفعالهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 11]، فتزول الأمانة من القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة، ثم إذا زال الجزء الثاني خلفه ظلمة أشد من الظلمة التي قبلها، ويصبح الأمين بعد ذلك غريبا في الناس، حتى يمدح من لا خير فيه ولا إيمان.
عباد الله، ليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمَّن عند الناس من غال وثمين كالنقود والمجوهرات والأثاث وغير ذلك، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي تشمل كل ما أوجبه الله على عباده، فالصلاة أمانة عندك أيها المسلم، مطلوب أن تؤديها في وقتها إن لم يكن لك عذر وبشروطها وأركانها، والزكاة أمانة مطلوب منك أن تؤديها في وقتها كاملة غير منقوصة إذا توفرت شروطها، والصيام أمانة بينك وبين الله إذا كنت قادرا، والحج أمانة إذا كنت مستطيعا له، والطهارة للصلاة وغيرها أمانة، والودائع والعواري التي عندك للناس أمانة، والسر الذي بينك وبين أخيك أمانة، والأعمال التي تتولاها من شؤون المسلمين أمانة، فالسلطان يتحمل أمانة، والقاضي ومن في حكمه يتحمل أمانة، والمدرس مؤتمن على عقول التلاميذ، مؤتمن على أداء الرسالة الشريفة التي تعلقت به وشرفه لله بها، والتاجر في متجره يتحمل أمانة الصدق في البيع والشراء وعدم الغش والخداع وتجنب المكاسب المحرمة، والموظف يتحمل أمانة في صرف وقته فيما ينفع الناس ولا يؤجل عمل اليوم إلى غد وأن يعامل الناس معاملة حسنة، والرجل في بيته يتحمل أمانة، وكل سيسأل عن أمانته، فيثاب إن حفظها، ويعذب إن ضيعها.
عباد الله، إن الأمانات التي حملها العبد ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أمانة بينك وبين الله، وهي ما كلفك به من عبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها، فإن أديتها كما أمرك الله وبقدر الاستطاعة فقد أديت هذه الأمانة، وإن قصرت فيها أو نقصت منها بدون عذر فقد خنت الأمانة، والحساب عند الله تعالى.
النوع الثاني: أمانة بينك وبين نفسك، فإن أعطيت نفسك ما يمتعها في حدود المباحات وأسعدت حياتك بما يعود عليك بالخير وسخرت هذه النفس في ما يرضي الله فقد أديت الأمانة، وإن صرفت طاقات جسدك وعقلك فيما يعود عليك بالبلاء والوباء وأتبعت نفسك هواها وأعطيت روحك مناها فليلك عكوف على المحرمات ونهارك نوم عن الصلوات وتكاسل عن الطاعات فقد خنت الأمانة، ولا تدرك ذلك إلا عندما تلاقي الله تعالى وتقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت.
النوع الثالث: أمانة بينك وبين عباد الله، وهذه من أعظم الأمانات، فالودائع التي يودعها أصحابها عندك أمانة وأي أمانة؟! خاصة إذا لم يكن عليها شهود وإنما ائتمنك صاحبها، ولذلك يقول الله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، والموظف الذي ائتمنته الدولة على تسيير أمور المواطنين مؤتمن، فإن داوم من أول اليوم إلى آخر وقت الدوام وترك التحايل والغش والإجازات الطبية المزورة والأعذار الكاذبة وراقب الله في عمله واحتسب خدمته للمسلمين فقد أدى الأمانة التي كلفه الله بها في هذا المجال، أما إذا لم يحضر الدوام إلا متأخرا وينصرف قبل نهايته ويغيب بعض الأيام ويأتي بإجازات طبية لا صحة لها أو يعتذر أعذارا كلها كذب يرضي بها المسؤول ولا يبالي بالله أو لم ينجز أعمال العباد بل يواعدهم إلى مواعيد أخرى مع قدرته على إنجازها في وقتها فهذا والله قد خان أمانته، وسوف يأكل راتبه حراما، ويمحق الله به كل شيء؛ النفس والأولاد والمال في الدنيا، وفي الآخرة حسابه على الله تعالى. والموظف العسكري أشد في هذا المجال؛ إذ إن عليه قسمًا أمام المسؤولين أن لا يخون، وأن يؤدي الأمانة التي كلف بها فوق كل أرض وتحت كل سماء، فإن أدى ما عليه سواء في دوام أو في دوريات أو في حراسة أو غيرها وإلا فقد خان الأمانة التي تحملها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوصى الله تعالى عباده المؤمنين بالحفاظ على الأمانة أيا كان نوعها، بينهم وبينه، أو بين بعضهم بعضا، أو بين العبد ونفسه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وقد جعل النبي خيانة الأمانة من علامات النفاق، والمنافق كما تعلمون أمره خطير وعاقبته وخيمة إذا مات ولم يتب، فقال : ((ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن فيه خصلة منهن ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
والمعلمون أمانتهم أشد وأشد، فهي أمانات وليست أمانة واحدة:
أولا: أمانة العلم الذي حُمِّله أيا كان نوعه، ولا سيما إذا كان علم الشريعة، فهذه الأمانة خيانتها من أكبر الخيانات، كيف وقد قال الله تعالى في هذا الصنف من الناس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.
ثانيا: أمانة الجيل الذي بين يديه والذي ائتمنه أولياء الأمور عليه، فيجب على المعلم أن يسخر كل طاقاته في سبيل هؤلاء الطلبة الذين اؤتمن عليهم، وأن يصرف وقته أثناء الدوام كاملا في أداء ما كلف به من واجب لهم، ولا يتكاسل أو يتغيب أو يصرف الوقت في كلام لا يفيد، وأن يزرع فيهم الخلق القويم والسلوك المستقيم، وأن يربي فيهم حب الخير والفضيلة، ويحول بينهم وبين الوصول إلى الشر والرذيلة، فإن كان هكذا وإلا فلينتظر من الله العقاب الرادع بسبب خيانته لأمانته.
ثالثا: أمانة المسؤولية التي أناطتها به الدولة، وأعطته عليها المرتب الذي يعيش منه هو وأولاده، وأخذت عليه العهد بأداء الواجب كما ينبغي، وليعلم أن الله رقيب إذا خفي على المسؤول بعض الأمور، فإن الله تعالى لا يخفى عليه شيء.
فالعلم أمانة، والطلبة أمانة، والوظيفة أمانة، والله سائل كل راع عما استرعاه، عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، وعن أبي أمامة عن النبي قال: ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، ففكه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة)).
عباد الله، إن الأمانة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولذلك عرضها الله سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال مع عظم خلقها وقوة جرمها إلا أنها لم تقبلها وخافت منها لما علمت أنها ثقيلة وأنها لا يمكن أن تؤديها على الوجه المطلوب، فلما عرضت على الإنسان قبلها وحملها بدون نظر إلى عاقبتها؛ ولذلك قال الله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَّحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً.
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا أماناتكم التي كلفكم الله بها، فقد أمركم في محكم كتابه بأدائها حيث قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم، ملك بر رؤوف رحيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وارجوه إنه هو الغفور الرحيم.
|