أيها الإخوة الأحبة، تحدثنا في خطبنا السابقة عن سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وفي الحقيقة نحن أكثرنا الحديث عن الأندلس والسبب أن وضع الأندلس يشبه إلى حدّ ما وضع الجزيرة العربية؛ لأن الأندلس حكمت بالإسلام أكثر من ثمانمائة عام، وظهرت منها حضارة إسلامية رائعة، ولكنهم بَعُدُوا عن الإسلام تدريجيًا إلى أن تمزقت الأندلس إلى دويلات وإمارات متفرقة متخاصمة، ونجح الكفار من الاستفادة من هذه الأحوال، وقضوا على المسلمين، وعادت نصرانية، وكذلك الجزيرة العربية كانت دولة إسلامية واحدة وتحت قيادة إسلامية واحدة هي الدولة العثمانية، ولكن أعداء الدين من يهود ونصارى نجحوا في تدمير الخلافة الإسلامية قبل سبعين سنة تقريبًا، وقسّموا العالم العربيّ وليس الجزيرة فقط إلى دويلات وإمارات متفرقة ومختلفة نراها اليوم ونعيش نحن وإياكم أحداثها، وذلك في معاهدات سرية عرفت بمعاهدة "سايكس أند بيكو"، ونجحوا في انتزاع أرض فلسطين من المسلمين، وزرعوا مكانها يهود أو ما تسمى اليوم بدولة إسرائيل، وهل الأمر يتوقف عند هذا التقسيم؟ بالطبع: لا، إنهم يريدون أن يحقّقوا ما كتبوه في المعاهدات والاتفاقيات السرية والعلنية بأن أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.
وكلكم يعيش أحداث العراق والمحاولات الدولية في تقسيمه الآن، والله يعلم ماذا يخططون بعد ذلك.
فيا أيها المسلمون، لم تكن مصيبة الأمة الإسلامية تنتهي بزوال سلطانهم من الأندلس وسقوط آخر معقل لهم هناك وهي مملكة غرناطة، بل إنها مصيبة جديدة تبدأ، إنها مأساة المسلمين هناك والثبات على الدين ضد الفناء الذي كان يريده لهم النصارى وخططوا لتحقيقه بوسائل عدة، وظلّ المسلمون يقاومون ما يزيد على القرن دفاعًا عن دينهم وعقيدتهم، أما النصارى وبعدما استتبّت الأمور للملكين النصرانيين في السيطرة الكاملة على غرناطة وزال ما كانا يخشيانه من احتمال انتقام المسلمين وانتفاضتهم ضدها، فأحكموا قبضتهم وشرعوا في نقض العهود التي لم تعطَ للمسلمين إلا تعجيلاً لهم بالاستسلام، ولقد تعهد الملكَان الكاثوليكيان في المعاهدة أنهما يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما وَيمهرَانِه بخاتميهما، وكرر هذا التعهد باسم ولدهما الأمير وسائر عظماء الدولة بالمحافظة على هذا العهد وأن لا يعمل ضده شيء أو ينقض منه شيء الآن وإلى الأبد، وأن يحافظا عليه بندًا بندًا، وذيل هذا التوكيد بالإضافة إلى توقيع الملكين بتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء.
فصدق المسلمون هذه العهود وسلّموا أسلحتهم حتى الأمواس والسكاكين، وبعد مدة بسيطة بدأ النقض لكل ما جاء في الاتفاقية عن قصد مسبق وتخطيط مدبّر، تُعاوِنهما في ذلك السلطات الكنسية ليأخذ صفة رسمية، فيطيعها الأفراد.
بعد هذه الاتفاقية وتسليم غرناطة بقيت أعداد كبيرة ـ ملايين من المسلمين ـ لم ترحل إلى المغرب المجاور ثقةً ببنود المعاهدة بأنهم آمنون في أوطانهم ولهم حرية العبادة في مساجدهم إلى آخر ما في المعاهدة، فلما رأى النصارى أن المسلمين راغبون الإقامةَ في غرناطة استطالوا عليهم وأخذوا منازلهم وأُمروا بترك مساكنهم والخروج من غرناطة إلى القرى والصحارى وفرضت عليهم المغارم الثقيلة وزالت حُرْمَة المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، فخرجوا أذلَّة صاغرين، وأُجبروا على التنصر وأكرهوا عليه، فدخلوا فيه كرهًا بقوة السلاح، وجعلت في المساجد النواقيس والصلبان، وصارت الأندلس دار كفر ولم يبق من يستطيع أن يجهر بكلمة التوحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد كان القساوسة يقولون للمسلم: "إنَّ جَدَكَ كان نصرانيًا فأسْلَم، فارجع أنت للنصرانية"، فإن أبى قتل.
إن هذا الهوان والذل الذي مرّ به المسلمون في الأندلس ويمر به المسلمون اليوم في كثير من البلاد ما كان ليحدث لو أن المسلمين لم يصدقوا عهود ومواثيق النصارى؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنهم لا يوفون بالعهود وينقضون الميثاق كما قال عنهم: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100]، وبين سبحانه وتعالى حال المسلمين اليوم إذا تمكن منهم اليهود أو النصارى بالمصير الأسود فقال: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 8].
الله أكبر! تأملوا هذه الآيات جيدًا، إن تمكنوا منكم وظَفِرُوا بكم وأصبحتم تحت سلطتهم ونفوذهم فإنهم لا يراعون حِلْفًا ولا عهدًا ولا رحمًا ولا ضمانًا ولا أمنًا، وقد يرضونكم بأفواههم مكرًا وخداعًا وبمعسول كلامهم، ولكن قلوبهم تأبى وترفض إلا الكذب والخداع، وهذا شيءٌ جُبلُوا عليه وأصبح ديدنهم وليس حالة مؤقتة أو فردية، وسبحان الله! من الذي يشرح لنا ويبين لنا صفاتهم؟! إنه الله خالقنا وخالقهم، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وبعد ذلك نصدقهم! ولكن العيب فيمن يصدقهم منا ويظن فيهم أو منهم خيرًا.
دعونا نستعرض بعضًا من العهود والمواثيق التي عملت مع المسلمين في الأندلس ثم نقضت بعد الحصول على ما يريدون: فحينما دخل "ألفونس السادس" طليطلة أعطى أهلها الأمان بضمان حرياتهم واحترام شعائر دينهم وحقوقهم وحرمة مساجدهم، لكن بعد شهرين فقط نقض هذه العهود وحول مسجد طليطلة الجامع إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب، علمًا بأنه قد نصّ في شروط تسليم المدينة أن يحتفظ المسلمون إلى الأبد بمسجدهم الجامع، فلقد بدأ ينقض العهود بتحويل المساجد إلى كنائس كخطوة أولى، فلما لم يتحرك المسلمون للدفاع عن بيوت الله تطور اعتداؤهم إلى انتهاك الأعراض وقتل الأنفس كما فعل النورمانديون حينما دخلوا مدينة "بربشتر"، واستباحوا المدينة الباسلة، وكان عدد القتلى ما بين أربعين إلى مائة ألف، ثم بعد ذلك أعطى قائد الحملة الأمان للمسلمين، لكنه حين رأى كثرة أهل المدينة أمر جنده أن تقلّل أعدادهم وتخفّف منهم حصادًا بالسيف، فأطيح برؤوس أكثر من ستة آلاف من المسلمين العزّل، ثم إنهم نهبوا المدينة وانتهكوا أعراض النساء أمام الأزواج والآباء وهم مقيّدون بالسلاسل، واختار قائد الحملة ـ لعنة الله عليه ـ من أبكار جواري المسلمين وأهل الحسن منهنّ خمسة آلاف جارية، وأهداهن إلى صاحب القسطنطينية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|