يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
ذكرنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ في خطبتنا السابقة كيف أصبحت أحوال المسلمين في الأندلس حينما بعدوا عن تعاليم دينهم وأصبحوا متفرقين يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون من أجلها، بينما النصارى المجاورون لهم يقيمون اتحادا بينهم على يد الإمبراطور "فرديناند الأول" الذي خطط لاسترداد الأندلس وإرجاعها إلى النصرانية بدلاً من الإسلام، وواصل ابنه "ألفونس السادس" هذه الحرب حيث بلغت ذروتها مع استيلاء "ألفونس" على مدينة طليطلة أهم المدن الأندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك، وكان سقوطها نذيرًا بأسوأ العواقب لبقية أجزاء الأندلس، حيث إن "ألفونس" قال بكل غطرسة بأنه لن يهدأ له بال حتى يستردّ الأندلس ويخضع قرطبة لسلطانه وينقل عاصمة ملكه إلى طليطة.
وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروّعة أن ملوك الطوائف المسلمين أو بالأحرى المتمسلمين لم يهبطوا لنجدة إخوانهم في طليطلة أو مساعدتهم، بل على العكس وقفوا موقفًا مخزيًا لدرجة أن بعضهم عرض على "ألفونس" تقديم العون والمساعدة، ورأى البعض الآخر أنه لكي يستمر في حكم مملكته آمنًا يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع "ألفونس" ويحالفه، ليس ذلك فقط بل يقدّم له الجزية السنوية، وشاركت بعض قوات أمراء الطوائف في الحملة على طليطلة مع "ألفونس"، وهناك والعياذ بالله من قدّم ابنته لتكون زوجة لـ"ألفونس".
انظروا إلى حالة المسلمين حينما يبتعدون عن منهج ربهم كيف يصير حالهم وكيف تتبدل وتنمسخ مبادئهم وشهامتهم، فيصبح العار أمرًا ثانويا ما دام يوصل إلى شهوات الدنيا.
ولقد أدرك "ألفونس" حالة الضعف والجبن التي يعاني منها أمراء الطوائف والتي تعود في الأساس إلى حياة الترف والمتاع والركون إلى الدنيا وكراهة الحرب والجهاد حتى وإن كان هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين والمروءة.
وبدا ضعف ملوك الطوائف واضحًا ملموسا مما شجع "ألفونس" فاستهان بهم واحتقرهم وقال عنهم: "كيف أترك قومًا مجانين تسمّى كل واحدٍ منهم باسم خلفائهم وملوكهم وكل واحد منهم لا يَسُلُّ للدفاع عن نفسه سيفًا ولا يرفع عن رعيته ضيما ولا حيفا؟!" بينما أسلافه السابقون مثل "تدمير" و"لوذريق" قالوا عن سلفنا الصالح حينما غزوهم وأدخلوهم الإسلام: "إن قومًا لا ندري أمن أهل الأرض أم من أهل السماء قد وطئوا بلادنا". الله أكبر! انظروا إلى الإيمان حينما يلامس شِغَاف القلوب ماذا يفعل، فلقد قذف الله الرعب في قلوب أعدائهم فهابوهم وخافوهم لأنهم خافوا الله واتبعوا كتابه وسنته نبيه .
وبعد الاستيلاء على مملكة طليطلة طمع "ألفونس" في الاستيلاء على مملكة إشبيلية المجاورة له، والتي يحكمها المعتمد بن عباد، وهو أحد أمراء الطوائف، وكان هذا الأمير قد استجاب للدعوات المنادية لجمع الشمل وتوحيد الأندلس عندما أدرك فداحة خطئه في التعاون مع "ألفونس" ومحالفته ضد أمراء الطوائف الآخرين، ولاح له المصير المحتوم الذي سينحدر إليه بعد سقوط طليطلة إذا لم تتداركه يد العناية الإلهية بعون أو نجدة غير منتظرة.
وبدأ "ألفونس" يتحرش بابن عباد ويوجد المبررات لغزوه، فأرسل السفير الخاص به وهو يهوديّ يسمى ابن شاليب يطلب الجزية السنوية، فلما أعطوه الجزية رفضها بحجة أنها من عيار ذهبي ناقص وهدد بأنه إذا لم يقدّم له المال من عيار جيد سوف يفعل وسوف يفعل وهدد باحتلال إشبيلية، ولما علم المعتمد بن عباد بما صدر عن هذا اليهودي أمر بصلبه وزجّ بمن كانوا معه في السجن، فعلم "ألفونس" فاستشاط غضبا وبعث سراياه وجنوده للانتقام والسلب والنهب، وخطط لغزو إشبيلية، وحشد المعتمد رجاله وقوّى جيشه وأصلح حصونه واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن "ألفونس" يعتزم العمل على إبادتهم جميعًا وأن المسلمين بقدرتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا له دفعا؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر بالأمير يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في المغرب وهو من البربر لمقاتلة هؤلاء النصارى، وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب، غير أن هذا الرأي واجه معارضة من بعض الأمراء الجبناء عند ابن عباد الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة مع النصارى وسيلة ٍ للأمن والاستقرار والعيش الذليل، ورأوا في المرابطين عدوًا جديدًا قد يسلب ملكهم، وقال ابن المعتمد لأبية: "يا أبتِ، أَتُدْخِلُ علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟!" فرد عليه المعتمد بعد أن استفاد من تجاربه السابقة مع الكافرين: "أي بني، والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدتُ الأندلس دار كفر تركتها للنصارى فتقوم اللعنة عليَّ في الإسلام مثلما قامت على غيري، إنَّ رعيي الجمال عند ابن تاشفين خير عندي والله من رعي الخنازير عند ألفونس"، وناشد المعتمد بن عباد المرابطين لنجدتهم وعبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين والذي وعده خيرًا وأجابه إلى ما طلب.
حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده، ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة وهو بربري، فعبر البحر وما كادت السفن تتوسّط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض ابن تاشفين ورفع يده إلى السماء وناشد ملك الكون العظيم بقوله: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل عليّ جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعّبه علي حتى لا أجوزه"، فهدأت ثائرة البحر وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ وهبط منها يوسف وخرَّ لله ساجدا شاكرًا لنعمائه واستجابته لدعائه. وهذا هو التوكل والالتجاء الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى في السراء والضراء.
ولما بلغ "ألفونس" نبأ تقدّم المسلمين لملاقاته استدعى قائده "ألبرهانس" وبعث مستغيثًا بجميع النصارى في شمال إسبانيا، فتقاطرت عليه فرسان النصارى من إيطاليا وفرنسا، ونظر "ألفونس" إلى جيشه الذي يزيد على خمسين ألف فارس وقال بغرور وعجب: "بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء"، أما عدد جيش المسلمين فكما تقول المصادر التاريخية يقرب عددهم من نصف عدد الكفار، وهم كالعادة أقلّ عددًا وعدة، ولكن الإيمان بالله والتوكل عليه هو مصدر قوتهم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|