أما بعد: فلقد فَخُرَتْ هذه الأمة وحُقَّ لها أنْ تَفْخَرَ بما شهد الله لها به وفضّلها على غيرها حيث قال جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]، فمن حَقَّقَ هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من هذه الأمة التي فُضِّلت على الناس، ومَنْ لَمْ يُحَقِّقْهَا خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق. ولن يفوز المسلمون بخيرية هذه الأمة المسلمة التي أُخرجت للناس حتى يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر: كل ما نهى الله عنه ورسوله.
أيها المسلمون، لقد مرضت قلوب كثير من المسلمين وكاد المرض أن يقضي على بعضها بالموت حتى نُزِعَتْ الغيرة الدينية من كثير منها؛ فأصْبَحَتْ لا ترى المعروف معروفًا ولا المنكر منكرًا، أصبح الشخص من أولئك لا يَتَمَعَّرُ وجهُه ولا يتغيّر من انتهاك حرمات الله، وكأَنَّه إذا حُدِّثَ عن انتهاكها يُحَدَّثُ عن أمرٍ عاديٍّ لا يُؤْبَهُ له، وهذا دَاءٌ عُضَالٌ أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال.
فواجب على المسلمين أن يتقوا الله ربهم ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتعاونوا على الحق والبر والتقوى، وأن لاَّ تأخذَهم في الله لَوْمَةُ لائِمٍ، وأن لاّ يخوِّفَهم شياطينُ الإنس والجن ويُوهِنُوا عَزَائِمَهُمْ، فمتى صدق المسلمون العزيمة وأخلصوا النية وأحسنوا العمل واتّبعوا الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم على منهج الكتاب والسنة فكلّ شيء يقوم ضدّ الحق سيضمحلّ ويزول، فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق، قال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18].
إن الذي ينقص المسلمين كثيرًا في هذا الزمان وفي كل مكان هو عدم التعاون بين أهل الخير لكثرة الخلاف والاختلاف واتباع الأهواء والْحِزْبِيَّاتِ، فنجدهم متفرّقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضًا ولا يقوم بعضهم مع بعض لنصرة الحق إذا جاء عن طريق غيرهم، وغاية الواحد منهم في كثير من الأحيان أنْ يَتَأَلَّمَ في نفسه أو يَمْلأَ المجالس قولاً بلا فائدة، ولو نظر المسلمون في كل مكان إلى ما هم فيه من أمراض وفسادٍ ومنكرات وبحثوا في منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وبدأ كل شخص بإصلاح نفسه وأولاده وأهل بيته ومن تحت يده ورعايته، لو فعل كل شخص منّا ذلك لصلحت الأسر جميعها وصلح المجتمع الذي هو مُكَوَّنٌ من تلك الأسر بإذن الله عز وجل.
أما إن كان منشأ ذلك من بعض ضعاف الإيمان والذين استحوذ عليهم الشيطان وتمّت دعوتهم ومناصحتهم بالتي هي أحسن وتذكيرهم بالله وتخويفهم به وبأليم عقابه إذا لم يقلعوا عن المنكرات فإن الواجب نهيهم عن تلك المنكرات، فإن هم تابوا وأنابوا فلهم من الله الأجر والمثوبة وقبول التوبة إن هم صدقوا في توبتهم، وفوق ذلك تُبَدَّلُ سيئاتِهم إلى حسنات، ولمن نهاهم عن الشرّ والفساد والمنكرات أيًّا كانت لهم مثل أجورهم بإذن الله إن تاب أولئك، وإن لم يتوبوا فلهم أجر هداية الدلالة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
فعلى المسلمين والمؤمنين حقًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وعليهم مناصرة بعضهم بعضًا على الحق؛ لكي يرحمهم الله عز وجل ويتحقق لهم وعد الله تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 71، 72]. وإذا لم يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكونوا أولياء لبعضهم كانوا على العكس من ذلك خاصة إذا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانطبقت عليهم صفات المنافقين، عندها يستحقون الوعيد الوارد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 67، 68].
فعلينا أن نحذر عقاب الله ونتذكر عظمته وقهره ونقوم بما أوجب علينا؛ لئلا تُسْلَبَ منا النِّعَمُ وتَحلَّ بنا النِّقَمُ، قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]، وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، ولنتأمل آخر كلمة في الآية عندما قال الله عز وجل: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ولم يَقُلْ: (وأهلها صالحون)؛ لأن الصلاح يختص بالشخص نفسه، أما المصلح فهو غالبًا صالح في نفسه مصلح لغيره حريص على صلاح الناس واستقامتهم على دين الله خائف من حلول عقاب الله عليه وعلى غيره الوارد في عدد من آيات القرآن الكريم كما في الآية السابق ذكرها وفي غيرها، مثل قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقوله عز وجل: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83]، وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقوله عز وجل: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 164، 165]، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كَلَّمَ أحدًا، فَلَصِقْتُ بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة وابن حبان رحمهما الله، وقال : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) رواه البخاري والترمذي وغيرهما. ومعنى ((القائم على حدود الله)) أي: المنكر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه، ومعنى ((استهموا)) أي: اقترعوا.
إذًا، إذا أردنا أن ننجو في الدنيا قبل الآخرة فعلينا القيام بهذه الشعيرة العظيمة حتى تنجو سفينة المجتمع من الغرق، وإذا لَمْ يَقُمِ المسلمون في أي مجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يغرق الجميع في عواقب المعاصي والمنكرات ويتحقق التشبيه البليغ الوارد في الحديث السابق ذكره وفي أحاديث أخرى وآيات قرآنية تتلى إلى يوم القيامة، عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحَلَّقَ بأصْبعَيْهِ الإبْهَامِ والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) متفق عليه. والخبث: الفسوق والفجور. يدلّ الحديث على أنه إذا كثر الخبث فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، وهذا يؤكد الفرق بين الصالح والمصلح، فالحديث يؤكّد ما ورد في الآية القرآنية السابق ذكرها أيضًا في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم تلا قول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ إلى قوله تعالى: فَاسِقُونَ [المائدة: 78-81]، ثم قال: ((كلا والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) أبو داود والترمذي وهذا لفظ أبي داود.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
|