أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن للجاه زكاة، واعلموا أن للمكانة الاجتماعية زكاة، فاستعملوا ما خوّلكم الله من نعمة الجاه في خدمة عباد الله المستحقين لذلك، فأن أنتم فعلتم فقد امتثلتم أمر نبيكم الذي يقول في الحديث المتفق عليه: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)).
حديثنا اليوم عما يسمى في هذه الأيام بالواسطة أو كما يحلو للبعض بتسميتها بـ(فيتامين واو)، قال ((من نفّس عن مؤمنٍ كُربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معْسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة)) رواه مسلم. فالبخيل ـ يا عباد الله ـ هو الذي يستطيع أن ينفع المسلمين بجاهه ونفوذه دون منةٍ ولا مشقه ثم لا يفعل، والمُفرّط هو الذي يتوسط للناس في كل الأمور دون التحقّق مما يفعل.
إن الواسطة هي الوقوف في صفّ من تربطه بك رابطة قرابة أو صداقه أو معروف، وتدافع عنه أو تشفع له أو تخاصم دونه، فإن كان في خير فلك نصيب من ذلك الخير، وإن كان غير ذلك فلك نصيب من ذلك الوزر، قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء: 85]. ومما عمت به البلوى اليوم انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حقّ من حقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، وإن كان في ذلك تجنٍّ على الغير أو ظلم لهم، والسبب في كل ذلك ضعف الوازع الديني والانقياد الأعمى للعاطفة والمجاملة والمحاباة للآخرين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء: 135]، فأمرهم الله أن يحتكموا إلى العدل لا إلى العاطفة في أداء الشهادة على وجهها دون مجاملة ولو كان في ذلك ضرر على الوالدين أو الأقربين، يقول رسول الله منفرا عن ذلك: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضار الله عز وجل، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) أي: حتى يرجع عن مخاصمته، وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول الله ؟! فكلمه فيها أسامة، فقال رسول الله : ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟!)) ثم قام فاختطب فقال: ((أيها الناس، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) متفق عليه، وفي رواية: فتلون وجه رسول الله فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
ولكي تكون الواسطة أو الشفاعة شرعية يجب أن يتوفر فيها ثلاث شروط:
1- أن تكون الواسطة في أمر خير واضح بيّن ومتحقّق، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دينه... إلخ.
2- أن لا تكون الواسطة أو الشفاعة في سوء يغلب على ظنه، كمن يتوسط في تزويج فاسق أو توظيف سارق أو رجل غير كفء ظنًا أنه قد يستقيم بعد الزواج أو يتحسن بعد حصوله على الوظيفة.
3- أن لا يكون في الواسطة مِنَّةٌ ولا مذلةٌ لطالب الواسطة، فإن المنَّة أذى، وإن الذل لا ينبغي لأحد إلا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
4- أن لا تكون الشفاعة أو الواسطة في حد من حدود الله، كمن يشفع في عدم إقامة حد قذفٍ مثلاً أو سرقة أو قصاص على من يستحقه، فيفشو في المجتمع الخبث وتكثر الجرائم وتتعطل حدود الله ولا تقام إلا على الفقراء والضعاف في المجتمع، فيأمن المجرم العقاب الشرعي.
ولو نظرنا لمجتمعنا اليوم لوجدنا الواسطة تلعب دورًا مهمًا في حياة الناس، فيحصل على الوظيفة أحيانًا أناس لا يستحقونها، ويقبل في الكلية أو الجامعة طلبة دون المعدّلات المطلوبة، وقس على ذلك في كثير من القطاعات التي لها مساس كبير بحياة الناس ومستقبلهم، وإذا استمر الحال كذلك فإنّ الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف فيما بينهم، فلماذا يتعلم الإنسان ويحاول الحصول على الدرجات العليا ويكدّ نهارًا ويسهر ليله إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة أو تعيين في مكانٍ ما بشفاعة أو بخطاب تزكية من شيخ معروف أو من أمير مسؤول؟! وكذلك متى يتأدب ويُردع الفاسق والمجرم ويكفّ شره عن الآخرين إذا علم أنه ينجو من العقاب لأن قريبه فلان أو صديقه علان في الإدارة الحكومية الفلانية ويستطيع أن يغير الأمور لصالحه؟! وسيمتنع أهل الخير من فعل الخير إذا اكتشفوا أن من زكّي عندهم لا يستحقّ ذلك الخير لأن التزكية كانت غير صحيحة أو مبالغا فيها، وهذا الشيء انتشر كثيرًا وصار طالب التزكية يغضب إذا لم يكتب له في التزكية ما يريده هو لا ما يعرفه عنه المزكي.
ولو ذهبنا لتقصي العمائر ـ كمثال ـ التي يوقفها أصحابها جزاهم الله خيرًا، وهو ما يسمى بالأربطة؛ لوجدنا بعضًا ممن يسكنها ممن هم ميسورو الحال ولهم سكن آخر ومؤجّر، وما أتى بهم هنا إلا الواسطة الظالمة، أما المالك فقد لا يعلم من هذا شيئا. وهذه الواسطة الظالمة تظن أنها فعلت خيرًا ولا تعلم أنها خانت الأمانة وحرمت مستحقًا للسكن وأعطته للآخر.
ألا فلنتق الله يا عباد الله، ولنعلم أن الواسطة والشفاعة أمانة، وأن خطابات التزكية والتوصية أمانة، ولا يجوز فيها المجاملة، وأنها والله يوم القيامة خزي وندامة، فكم من صاحب حق منع حقه بشفاعة أو واسطة ظالمة وغير شرعية، وأعطي هذا الحق لمن لا يستحقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|