.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

بين يدي الاستسقاء

5778

الرقاق والأخلاق والآداب

آثار الذنوب والمعاصي

حمد بن سليمان الحقيل

الرياض

جامع الفردوس

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سنة الابتلاء. 2- عقوبة الحرمان من خيرات السماء. 3- ظاهرة الغفلة والتمادي في العصيان. 4- مشروعية صلاة الاستسقاء. 5- الاستسقاء في الزمن الماضي. 6- الاستسقاء في هذا الزمان. 7- انتشار الفساد في هذا الزمان. 8- المستهترون بصلاة الاستسقاء.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، فهي وصيته جل وعلا للأولين والآخرين كما قال رب العالمين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ. فاتقوا الله في السر والعلن، فبالتقوى تُستنزل البركات وتجلب الرحمات وتفرج الكربات وتُستجلى العقبات وتستدفع العقوبات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.

عباد الله، لقد مضى من سنة الله جل في علاه مع عباده وأوليائه أن يبتليهم بنزول بعض ما يكرهون في حياتهم؛ في أمنهم وفي عيشهم ومطعمهم ومشربهم وأموالهم وصحّتهم واجتماعهم بأحبتهم، كما مضى من سنته سبحانه أن يزيد في بلائه لهم كلما زاد إيمانهم وارتفعت عنده منزلتهم، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: ((الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).

وأيضا مضى من سنته سبحانه وعدله أن يعاقب من عباده من غفل عنه وصدّ عنه، وتزداد العقوبة مع زيادة البعد، وتشتد في حال الجهر بالمعصية وإظهار عدم الخوف منه جل وعلا، وفي هذا قال عمر بن عبد العزيز: "كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم". نسأل الله العافية من سخطه وغضبه.

وإن من أكثر ما يبتلى به المؤمنون ويعاقب به العصاة في كلّ العصور هو حرمانهم من خيرات السماء وبركاتها، وفي هذا الأمر يبين جل وعلا حقيقةً مفادُها أن الغفلة والإعراض عن الله سبب في الحرمان من بركات السماء، يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وقد ذكر المفسرون في تفسير قول الله جل وعلا: وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ أن البهائم تلعن عصاة بني آدم؛ تقول: منعنا القطر من السماء بسبب ذنوبكم.

والغفلة والمعصية كما تحدث من العصاة والفسقة فهي قد تحدث من المؤمنين الطائعين وإن اختلفت درجة الخطيئة ودرجة العقوبة المترتبة عليها، ولكن الفرق بين الطائفتين أن المؤمنين الطائعين كما وصفهم ربهم جل وعلا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وإنما هذا خبر من الله عن فريقَي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة، وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها".

ولعل ما يوحي بتمادي الناس في المعاصي هذا الابتلاء الحالّ بهذه البلاد الآن من تأخر نزول الأمطار وانحباسها، وهم الذين لا قوام لحياتهم بدونها، وقد يصابون بجهد وبلاء لا يدرك حجمه إلا من عانى بسببه وشعر بفقده، فانحباس المطر علامة على بعد وإعراض الخلق عن ربهم جل وعلا، ولأجل هذا شرع المولى جل وعلا لعباده عبادة مناسبة لمثل هذا الحدث، عبادة يرجعون بها إلى ربهم، يرفعون فيها شكواهم ويطلبون بها رضا مولاهم؛ ألا وهي عبادة الاستسقاء، إما بالصلاة المعروفة أو بالدعاء، سواء في خطب الجمع أو سرًا بين العبد وربه.

وهي صلاة تشرع لسببها الخاص بها، فليست كالسنن الرواتب ونوافل العبادات مفتوح وقتها، بل هي مقيدة بحدوث سببها وهو انحباس الأمطار واحتياج الناس إليه، كما في صلاة الكسوف التي لا تشرع إلا عند ورود سببها، وهو كسوف الشمس أو خسوف القمر.

والسر في مشروعيتها أن يظهر المسلمون المذنبون اعترافهم لربهم بخطيئتهم، وأن يعلنوا البراءة من كل ذنب وخطيئة اقترفته أياديهم علموه أو جهلوه، فما إن يعلن عن إقامة صلاة الاستسقاء إلا وتجد المؤمنين الأوابين يتسابقون لأدائها، ليس رغبة في نزول المطر فقط، وليس رغبة في أداء سنة من السنن فقط، بل برغبة رئيسة في إعلان التوبة إعلانًا عامًا يظهرونه أمام الخلق جميعا بطريقة خاصة شرعها جل وعلا ورضيها وبينها رسوله الكريم، وهي معلومة بتفاصيلها لدى عامة المسلمين وخاصتهم. كما تجد أنهم مع هذا التسابق لإعلان التوبة وأداء تلك العبادة تجد أن قلوبهم قد ملئت يقينا باستجابة دعائهم، وملئت يقينا بتفريج ما حل بهم قبل استسقائهم.

ولما كان رسول الله وصحبه الكرام وسلف الأمة المتقدّمون منهم والمتأخرون، لما كانت قلوبهم تمتلئ بهذا اليقين وهذه الثقة بالرب الكريم ما كان الغيث ليتأخر حتى وقت انصرافهم من المصلى، فهم يدركون أن الله جل وعلا ما كان ليخذل عبدا تلبس بلباس الذل لمولاه واعترف بخطئه وأقر بذنبه فيرده خائبا لم يستجب له، لقد كان الصالحون من آبائنا وأجدادنا يخرُجون للاستسقاء تائبين منيبين راجين، فكان لا يخلُفهم المطرُ غالبًا، ولربّما نزل عليهم وهم في مصلاَّهم، ولقد كانوا مع فقرِهم وقلَّةِ ذات اليد عندهم أكثرَ بركةً منَّا وأوسعَ عافية، وذلك بسبب قربهم من الله وقلّة معاصيهم وشيوع العدلِ بينهم والفرار من الظُّلم فرارَ الصحيح من الأجرب، فلذلك حصل لهم ما حصَل من سَعَةٍ في الدين وبركةٍ في الرزق، ولقد قال أبو داود صاحب السنن في سننه عن نفسه: "شبرتُ قثّاءَةً بمصر ثلاثةَ عشر شبرًا، ورأيتُ أترجَّةً على بعير بقطعتين، قُطعت وصُيِّرت على مِثل عِدلين"، وذكر المحدِّث الحافظ معمر بن راشد أنّه رأى باليمن عنقودَ عنب ملءَ بغلٍ تامّ، وقد جاء في مسند أحمد أنه وُجد في خزائن بني أميّة حِنطةٌ الحبَّةُ بقدر نواةِ التَّمر، وهي في صُرَّة مكتوب عليها: "هذا كان ينبُت في زمنِ العدل".

فالخيْر والبركة والوفرة أمورٌ مرهونة بالعدل والحكمِ بشريعة الله ورفع المظالم عن الناس وإقامة الحدود كما أوجب الله جلّ وعلا، ولذلك جاء في صحيح مسلم حكايةُ ما يكون في آخر الزمان عند خروج المهديّ حينما يملأ الأرضَ قِسطًا وعدلا كما مُلئت ظلمًا وجَورًا، فتحصلُ البركات وتكثر الخيرات، حتى إنَّ قشرةَ الرمانَةِ يستظلّ بها الجماعة من الناس.

وتأمل ـ يا عبد الله ـ فيما ذكره بعض المفسرين والمؤرخين عن حال بعض أرباب الديانات الكافرة التي كانت تعيش مع المسلمين آنذاك، في أنهم كانوا حين خروج المسلمين لصلاة الاستسقاء كانوا يخرجون معهم فيجلسون قريبا من مصلاهم؛ لعل ما ينزل من السماء للمسلمين من خير يصيبهم أيضا، فهم إن لم يكسبوا شيئا لم يخسروا بخروجهم، هذا مع كفرهم يوقنون بأن هناك استجابة من السماء لمن دعا من أهل الأرض.

إذا تأملت ما مضى فإنه ينزل بك عجب شديد لمن يستثقل الخروج لأداء الصلاة أو يستخف بها، أو بمن يؤديها ويشكك في استجابة الله لهم، عياذا بالله تعالى. ولو أن كل من خرج لصلاة الاستسقاء كان على ما كان عليه سلفنا الذين يخرجون إليها وهم يعلمون أنهم يتجهون لباب من الأبواب الربانية، يرفعون عن طريقه الشكوى ويستنزلون من خلاله الرحمة، فيتذللون ويخشعون ويذكرون ويسألون ويتوبون ويستغفرون، لو كان لهم حال مثل تلك الحال لكان الله مستجيبا لهم لِما أظهروه من حال، ولما أبطنوه من يقين واعتقاد. ولكن لما كان في مثل هذا الزمان أناس يصلون صلاة الاستسقاء وهم فاقدون لتلك الصفات أو بعضها فيستسقون وهم متلبسون بلباس الظلم لأنفسهم أو لغيرهم، فأموال مستحقة لله جل وعلا منعت، وأجسام بالحرام غذيت، وملابس بالحرام حيكت ولبست، ونوايا بحب الذات والتنكر لحقوق الآخرين غلفت، وكذلك قلوب قد ملئت شرًا فأساءت الظن بربها وشاب فكرَها شكٌّ في موعود مولاها باستجابة دعاها، لما كان هذا حال بعض ممن يخرج لصلاة الاستسقاء كان لله جل وعلا جزاء مناسبٌ لحالهم، إذ قد يرد سبحانه كثيرا منهم بسبب خلل في توبة واستسقاء بعضهم.

ولنا أن نقف مع مثل هذه الأحوال، فأما ظلم النفس بالحرام ومنع الحقوق الواجبة فلا يخفى على مسلم ما أبيح له وما حرم عليه، إذ الحلال بين والحرام بين، وليس المقام مقام ذكر هذه الأمور، ولكن للنبي حديثان يوضحان هذين الأمرين: منع الحقوق الواجبة وظلم النفس بالأموال المحرمة، ويبينان دورهما في منع خيرات السماء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ))، وذكر منها: ((وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)) الحديث. ولك أن تتخيّل حجم الزكوات والنفقات الواجبة الممنوعة من أهلها لتدركَ معها حجم الخطر والعقوبة التي عرضوا الناس لها. وأيضا روى مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ))، قَالَ: ثم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ: ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)).

عباد الله، يقول جل في علاه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.

أقول قولي هذا...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الملك المالك صاحب الفضل والمن، يصرف الرياح ويسخر السحاب تبصرة وذكرى لكل بصير من إنس أو جن، أمره للشيء إذا أراده أن يقول له: (كن)، رحمته وسعت كل شيء أخبر أنه يكتبها لكل تائب مؤمن، وأشهد أن لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وحشرنا ووالدينا وأحبابنا في زمرته، وأسعدنا في الجنة بصحبته.

أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها الملتزَم، وعليها المعوَّل والمعتَصم، فبتقوى الله سبحانه تصلُح الأحوال وتحسُن العاقبة ويحلو المآل.

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّكم وما تأمَلون من هذه الدنيا ضعفاء مؤجَّلون ومدينون مطالبون، ومِن المعلوم شرعًا أنّ مطلَ الغنيّ ظلم، فإنّ الأجلَ منقوص والعملَ محفوظ، فلِلَّه كم من دائب مضيِّع، وكم من كادِح خاسر.

وإنّكم ـ أيّها المسلمون ـ قد أصبحتم في زمنٍ لا يزداد الخير فيه إلا قلَّة، ولا الشرّ فيه إلا كثرة، ولا الحقّ فيه إلا خفاءً، ولا الباطل إلا شيوعًا. لقد كثر الطَّمَع، واشتدَّ الجشع، وظهر الربا، وكثُر الغشّ، وشاعتِ الرِّشوة، وعمَّ الغُلول.

ألا إنَّ الواحدَ منّا يرى في غير ما سبيلٍ طغيانَ النفاق وانتشارَ الكذب والرياء والسمعة واعتلاءَ صيحاتِ المتمرِّدين عن دينهم والمستهترين بشريعتهم، ومَن قلَّب طرفَ الرامِق بعين بصيرته فإنّه لا يبصر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدّل نعمة الله كفرًا، أو بخيلاً اتَّخذ البخلَ بحقِّ الله وفرًا، أو متمرِّدًا عن حدود الله كأنَّ من أذنيه من سمع المواعظ والزواجر وقرًا، إلاَّ من رحم ربّي وقليلٌ ما هم.

عباد الله، إن أعظم سبب في رد قبول استسقاء العباد سوء الظن بربهم، ولك أن تتأمل حال بعض من الناس لا كثَّرهم الله، وحالهم حال يتكرّر في كل عام عافانا الله وإياكم من ذلك؛ يقول قائل: "كانت هناك سحب وخيرات فما أن صلّى هؤلاء حتى زالت تلك السحب وتحولّت عنا"، وقد يقول البعض: "لو تركونا من صلاتهم تلك لنزلت الأمطار"، ونحو تلك العبارات. قد يقولها يمزح أو يقصد بها أن صلاتهم غير سليمة ولا تامة، أو يبرر بحدوث عيب في ذات المصلين السائلين الذين هم خير منه؛ إذ مع عيوبهم قد سعوا فصلّوا وسألوا، وليس مثلَه فضَّل النوم والكسل على القدوم على ربه. وعموما فمهما برّر واعتذر فعذره مردود عليه، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.

ثم تجد لدى بعض ممن أنعم الله عليهم بأداء الصلاة أنهم يخرجون للمصلى وفي أنفسهم شكّ في استجابة الدعاء أو قبول التوبة أو نزول المطر بعد الصلاة، وهنا مكمن الخطر؛ إذ قد ورد في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي))، وفي رواية: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)). وهنا ينكشف سرّ وتتجلى حقيقة، هي أن كثيرًا من الناس قد ظن أن ربه لن يستجيب له، فكان ربه جل وعلا كما ظن به.

وقد يُلبّس إبليس على البعض فيقول: بأن هذا الظن ـ أي: ظن عدم استجابة الدعاء ـ هو من باب احتقار النفس والعلم بعدم أهليتها لاستجابة الله لها، وهذا هو باب الشيطان الذي يلج منه لإخراج الناس من دينهم، فيشككهم في موعود الله لهم بحجج لا يقبلها جل وعلا، وحذّر منها رسوله، كما روى الأئمة الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ))، ويقول: ((لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لا مُكْرِهَ لَهُ)).

فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم وبلادكم، واستقبلوا الاثنين القادم صلاة الاستسقاء التي ندبكم إليها ولي أمركم مقدّمين بين يديكم الذكر والصدقة والصيام؛ فإن الله جل وعلا حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ، فإننا نرفع أيدينا سائلينه جل وعلا ومنتظرين إجابته لنا، فهو الغني الكريم والرب الرحيم.

اللهم أنت المدعوُّ بكل لسان، المقصود في كل آن، لا إله إلا أنت غافر الخطيئات، لا إله إلا أنت كاشف الكربات، لا إله إلا أنت مجيب الدعوات، لا إله إلا أنت مغيث اللهفات، أنت إلهنا، وأنت ملاذنا، وأنت عياذنا وعليك اتكالنا، وأنت رازقنا، وأنت على كل شيء قدير، يا أرحم الراحمين، يا خير الغافرين، يا أجود الأجودين، ويا أكرم الأكرمين، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، نسألك مسألة المساكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضعين الذليلين، وندعوك دعاء الخائفين الوجلين، سؤال من خضعت لك رقابهم، ورغمت لك أنوفهم، وفاضت لك عيونهم، وذلّت لك قلوبهم، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، غدقًا مغدِقا مونقًا، هنيئًا مريئًا، مريعًا مُرتعا مُربعا، ربيعًا طبقا مجلِّلا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورًا، لتحيي به بلدة ميتا وتسقيه مما خلقت أنعامًا وأناسي كثيرًا، اللهمّ انشر علينا غيثك، اللهم انشر علينا غيثَك وبركتك ورزقَك ورحمتك، وأسقنا سُقيا نافعة مُرويةً مُعْشِبةً، تنبتُ بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافِعةَ الحيا، كثيرةَ المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البُطنان، وتستورق الأشجار، وترخِص الأسعار، إنّك على كلّ شيء قدير. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ إنّك تشاهدنا في سرّائنا، وتطّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلغَ بصائرنا، أسرارُنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، إن أوحشَتنا الغربةُ آنسَنا ذكرُك، وإن صُبَّت علينا المصائب لجأنا إلى الاستجارة بك، إنّنا عبيدُك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عدلٌ فينا قضاؤنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والبلاء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم أنزل علينا من بركاتك يا سميع الدعاء، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء والعبيد، لا إله إلا أنت أنت الغني الحميد، اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، اللهم ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلب نعمتك عنا، وكن معنا يا ربنا حيث كنا، إن هي لا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، يا من عمَّ برزقه الطائعين والعاصين، وعمّ بجوده وكرمه جميع المخلوقين، جد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم وسِّع أرزاقنا، ويسّر أقواتنا، رحماك رحماك بالشيوخ الركع، والمسبِّحات الخشّع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم اسقنا واسق المجدبين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرّج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، وفرج عنا وعن أمة محمد أجمعين، اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجهد، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، فلا تردنا خائبين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. نستغفرك ربنا ونتوب إليك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. اللهم صل على نبينا محمد النبي المصطفى المختار، اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل عليه ما أزهرت الأشجار، اللهم صل عليه ما هطلت الأمطار، وسالت الأودية والأنهار، وفاضت العيون والآبار.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً