الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد والأمر كله وهو اللطيف الخبير، وهو على كل شيء قدير، القائل سبحانه: أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ [الأعراف: 54]، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فقد قال الله عز وجل فيما أنزله على رسوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105]، وقال عز وجل: وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد: 37].
فممّا تقدّم من الأدلة في الآيات التي ذكرت ومما لم يتسع المقام لذكره يتبين لكلّ مسلم أنّ تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه من مقتضى العبودية لله والشهادة للرسول محمد ، وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تُعامِل به أي دولة رعيتها أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل زمان ومكان، وفي حال الاختلاف والتنازع العام والخاص سواء كان بين دولة وأخرى أو بين جماعة وجماعة أو بين مسلم وآخر، فالحكم في ذلك كله سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر وهو أحكم الحاكمين، وهو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم، فالحكم لله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: وَهُوَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلأولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
ولا إيمان لمن يعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو أنها تماثلهما وتشابههما، أو من تركها وأحلّ محلها الأحكام والقوانين الوضعية والأنظمة البشرية وإن كان معتقدًا أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل لما تقدّم من الأدلة، كما أنه لا يجوز الإيمان والعمل بما يهوى الإنسان ويترك ما لا يهواه، فهو بذلك يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعضه ويناله الخزي في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85]، وقال تعالى: قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَا لِهَـٰؤُلاء ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78]، وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم وأهل الحل والعقد فيهم أن يتقوا الله عز وجل ويحكّموا شريعته في بلدانهم ويقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وعلى عامة المسلمين في كل بلادِ العالم وطالبِ العلمِ والجاهل أن يطالبوا حكامهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله محمد ، وعليهم أن يعتبروا بما حلّ في بلادهم وغيرها من بلاد المسلمين التي أعرضت عن حكم الله وينظروا ما حصل فيها من الاختلاف والتفرق والفساد وضروب الفتن وقلة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضًا وينتهك حرمة وعرض غيره ولا يطبق بحقه شرع الله، ولا يزال الأمر في البلاد المعرضة عن تطبيق شرع الله في شدة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عنهم سياسيًا وفكريًا واقتصاديًا إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه الله لعباده وأمرهم به ووعدهم عليه جنات النعيم، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِـئَايَـٰتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ [طه: 124-127].
ونحن هنا في بلاد الحرمين الشريفين نحمد الله عز وجل على جميع آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها نعمة الأمن الذي نتفيأ ظلاله بسبب تطبيق شرع الله وإقامة الحدود على المجرمين والساعين في الأرض فسادًا، نحمد الله عز وجل الذي هيأ لنا قضاة يحكمون بالكتاب والسنة وولاة أمر ينفِّذون الأحكام الشرعية، فاجتمع بذلك عدل القضاة والحكام وسيف السلطان وسوطه، فارتدع كثير من أهل الشر والفساد والإجرام عن الإقدام على جرائمهم بسبب خوفهم من إقامة الحدود عليهم، وهذه نعمة عظيمة في هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف، والتي نحن محسودون عليها من أمم وشعوب كثيرة في هذا العالم المعاصر لولا الله الذي وفق قادة هذه الأرض المباركة إلى ذلك لرأينا وعشنا وذقنا ما يذوقه غيرنا في هذا العالم الذي يموج بالفتن والصراعات حتى لا تكاد تَمُرُّ ساعة إلا ونسمع الأخبار المؤلمة التي تعيشها البشرية في ذلك العالم الذي يزعم ويدعي القيام بحقوق الإنسان وهو إلى عقوق الإنسان وظلمه أقرب، نعم العقوق بالعين وليس بالحاء، حيث سعوا إلى عُقُوقِ الْمُعْتَدَى عليهم وظلموهم، وادَّعَوْا حُقُوقَ الْمُجْرِمِينَ لأنهم يريدون السَّيْرَ في رِكَابِهِمْ بِاسْمِ الْبَرِيقِ الزَّائِفِ من حقوق الإنسان.
فعلينا أن نشكر الله عز وجل قولاً وعملاً واعتقادًا على ما أولانا من النعم ونتعاون على البر والتقوى وكل ما فيه صلاح ديننا ودنيانا وآخرتنا، ونحكم بشرع الله ونحب ذلك من سويداء قلوبنا وندعو الله لمن ولاه الله أمرنا بالثبات على ذلك والسداد والتوفيق، وإن كانوا قد أعلنوا ذلك ولا زالوا بين كل حين وآخر بأن هذه الدولة قامت على كتاب الله وسنة رسوله محمد وستظل بإذن الله عز وجل، ولم يمنعها تطبيق تعاليم الإسلام من الأخْذِ بأسبابِ الرُّقِيِّ والتقدم في جميع المجالات المعيشية التي تحتاج إليها حيث أَكْسَبَهَا ذلك عِزَّةً ورفعةً ومهابةً بين الدول وفي نفوس جميع الحاقدين والمفسدين أفرادًا وجماعات، وليس في ذلك أَيُّ تَأَخُّرٍ بل هو التقدم بعينه، أي: الحكم بما أنزل الله، والعكس هو الصحيح، أي: أن من لم يحكم بدين الإسلام فهو في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وإن كانوا يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري الموافق للقرن الواحد والعشرين الميلادي، كما قال تعالى: أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَى [طه: 124]، فلله الحمدُ والْمِنَّةُ، وله الثناءُ كُلُّهُ، قال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ [النحل: 53]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20].
إن الواجب على علماء المسلمين اليوم كبير، ومن بعدهم طلبة العلم حول بيان وشرح أحكام الإسلام ونشرها بين المسلمين، إنَّ واجبَهم أنْ يرفعوا رؤوسَهم ولا يَدُسُّوها في التراب. إن واجبهم أن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وما تكاد تمر بالأمة الإسلامية حادثة أو سحابة صيف إلا وتنكشف أمور نخشى عواقبها وما وراءها على كثير من المسلمين، والسبب الأول والأساسي في ذلك هو التخاذل وعدم الصراحة والأنانية وحب النجاة كل بمفرده أو السكوت وتَكْمِيمُ الأفواه وإِخْرَاسُ الأَلْسُنِ وتَحْطِيمُ الأقلام التي تقول الحق وتُنِيرُ الطريقَ للعباد في دَيَاجِيرِ الظُّلَمِ والفساد، وليس أَدَلَّ على ذلك من واقع المسلمين اليوم وفي شتى بقاع الأرض وخلال السنوات الماضية وما مَرَّ بهم وما يعيشونه اليوم من الحروب الحقيقية القتالية والكلامية الساقطة، وعندها تتجلى الحقائق وينكشف المخبوء ويظهر الْغُثَاءُ والزَّبَدُ على الساحة، وعندها يعرف المسلمون عامة ومنهم العلماء وطلبة العلم ماذا تم تقديمه لهذه الأمة اللاهثة التي لا تفقه كثيرًا من أحكام دين الإسلام ومن أوجب الواجبات عليهم ويعلمون مدى تقصيرهم في إبلاغ رسالة ربهم، حتى آلَ أَمْرُ المسلمين إلى جَهْلِ أبناءِ الإسلام بإسلامهم وتَخَاذُلِ علمائهم وظُلْمِ حكامهم.
إن سبب جهل المسلمين بإسلامهم هو كتمان العلم وعدم البيان من قبل العلماء والرضا بالحياة الدنيا ومتعها الزائلة وطلب رضا الناس بسخط الله عز وجل حتى اتخذ الناسُ رُؤُوسًا ورُؤَسَاءَ جُهَّالاً بدين الله فضلوا وأضلوا وأحلوا كثيرًا مما حرم الله مثل الربا والغناء والحكم بغير ما أنزل الله وإيجاد المبررات لذلك في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك كثير، حتى استساغ المسلمون تلك الأوضاع وعاشوا في الأوحال، وعندما يُطَبَّقُ شَرْعُ الله أو يُطَالِبُ أَحَدٌ بتطبيق شرع الله أو حَدٍّ من الحدود عندها يَتَّضِحُ انتساب المسلمين إلى الإسلام فقط، ولا ينفعهم الانتساب، خاصة الذين يستنكرون تطبيق أي حد من حدود الله، أو يُنَدِّدُونَ بمن يفعل ذلك أو يستهزئون بالإسلام وتعاليمه أو ينطقون بعبارات الشرك والكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وعلى المسلمين جميعًا أن يتأملوا ويتدبروا وأن يعملوا بهذه الآية التالية المحكمة وبغيرها لكونها كافية شافية لمن أراد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة حيث أقسم رب العزة والجلال بربوبيته تبارك وتعالى بِنَفْيِ الإيمان عن أَيِّ مُدَّعٍ لذلك حتى يستوفي ثلاثة شروط متضمنة لتحكيم الكتاب والسنة في أي خلاف واختلاف ومشاجرة، وعدم وجود الحرج، والرضا بذلك بعد الحكم والتسليم والاستسلام لأحكام الله عز وجل، قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...
|