أما بعد: فإن الناس في أي زمان ومكان لا تستقيم أمورهم وشؤونهم وهم فوضى لا سراة لهم، وجميع البشر على وجه الأرض جعلهم الله درجات، فمنهم الحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس، وهذه سنة كونية من الله عز وجل في عباده.
والمسلمون إذا طَبَّقُوا إسلامَهم كاملاً وَرَضُوا به حكمًا في جميع شؤونهم فسوف يعيشون في غاية العزة والسعادة والرفعة بإذن الله في الدنيا، ولهم في الآخرة من الله الأجر العظيم.
الإسلام خَيْرٌ كُلُّهُ على أهله العاملين به والمقصرين، وهو خيركله أيضًا على البشرية جميعها، لم يُتْرَكْ فيه شَيْءٌ إلا طُرِقَ، ولا مسألة أو مشكلة إلا وجد لها فيه الحلُّ الأمْثَلُ.
وإن من أهم الأمور التي يَشْطَحُ فيها أبناءُ الإسلام وتَزِلَّ بهم الأقدام وتتباين بهم حولها الآراء والاتجاهات والاختلافات والأهواء خاصةً في هذا الزمان الذي تعددت فيه المشارب والثقافات واختلط فيه الْغَثُّ بالسَّمِين ودُسَّ السُّمُّ في العسل وكثرت فيه الشبهات والشهوات واختلفت النيات والمقاصد، واختلط على كثير من الناس فَهْمُ ومعرفةُ طرقِ أهل الباطل وأساليبهم في كثير من دروب الغواية والضلالة الواضحة الجلية لأهل العلم والبصيرة، فضلاً عن أن يعرفوا أساليب وطرق بني جلدتهم الذين يتكلمون بألسنتهم ولغتهم وإسلامهم أحيانًا، فمن تلك الأمور التي شطحوا فيها طاعةُ أولي الأمر من المسلمين وبَيْعَتُهُمْ، ولو أنصفوا من أنفسهم واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله محمد قراءةً وتدبرًا واستنباطًا بعد الفهم الصحيح الذي لن يكون إلا على أيدي العلماء المخلصين الخائفين من الله عز وجل والذين لا تطيش بهم الأهواء والآراء والاعتبارات أيًا كانت، لو فعلوا ذلك لما تفرقوا شيعًا وأحزابًا كل بما لديهم فرحون، قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].
وإننا في هذا البلد الطيب المبارك محسودون بين الأمم المعاصرة لنا، وَيُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى علينا تلك الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، محسودون حَسَدَ غِبْطَةٍ بين المؤمنين في بقاع الأرض حيث يَتَمَنَّوْنَ الحياةَ الكريمةَ الآمنةَ التي يُحَكَّمُ فيها شَرْعُ الله بيننا، ويريدون أن يكون حالهم كحالنا أو أفضل مع تقصيرنا الذي يعلمه الله، ومحسودون أيضًا حسد تَمَنِّي زوال هذه النعم المتعددة التي نعيشها، محسودون من قبل أعداء ديننا الإسلامي الحنيف ابتداء من بني جلدتنا أصحاب الشهوات والشبهات والمعاصي والمنكرات والمنافقين والرافضة واليهود والنصارى والشيوعيين وجميع مِلَلِ الكفرِ ونِحَلِهِ، ولن يرضوا عما نحن فيه وعليه، ولنْ يَقِرَّ لهم قَرَارٌ أو يَهْدَأَ لهم بَالٌ في ليل أو نهار إلا بالسعي الحثيث لِتَقْوِيضِ مَعَالِمِ دين الإسلام بأي طريقة كانت، سواء منهم وبأيديهم أو بأيدي بني جلدتنا السِّلاحِ الْفَتَّاكِ الذي عن طريقهم تدخل الشرورُ وتُرْتكب المعاصي والآثام دون انتباه عامة الناس لخطط الأعداء الأَلِدَّاءِ للإسلام والمسلمين، وقد وصلوا لكثير مما أرادوه وخططوا له على غفلة من أهل الإسلام الغيورين، وكان نَفَسُهُمْ طويلاً خلال عشرات السنين، ولكنهم مهما مَكَرُوا وفكَّروا ودبَّروا وقدَّروا فالله لهم بالمرصاد، فهو سبحانه حافظٌ دينَهُ وناصرٌ لأهل طاعته، وهو يدافع عنهم وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ [الأنفال: 30].
والذي أريده بعد هذه التوطئة هي الذكرى التي ينتفع بها المؤمنون وشكر الله عز وجل على جميع النعم التي أنعم الله بها وأسبغها علينا نعمًا ظاهرة وباطنة والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والاختلاف والتعاون على البر والتقوى، ونعم الله علينا كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن تلك النعم المفقودة في العالم والتي نَتَفَيَّأُ ظِلالَهَا ونعيش تحت مظَلَّتِهَا ونجني ثمارها ونعيش أَمْنَهَا وَرَخَاءَهَا هي نعمةُ تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ وإقامة حدودها والترابط والتآلف بين ولاة الأمر من الحكام والعلماء وبين المؤمنين الصادقين وعامة الناس، هذا الترابط والتَّلاحُمُ والاعتزاز بالإسلام وأحكامه يزيدهم عزة ورفعة بين الأمم ويشيع الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع، يفرح بهذا المؤمنون وتنشرح صدورهم ويزداد المنافقون والفاسقون والكافرون غيظًا وحقدًا وحسدًا وكفرًا ونفاقًا.
لقد جاءت الأدلة في القرآن الكريم والسنة النبوية تدل على وجوب طاعة ولاة الأمر من المسلمين ولزوم جماعة المسلمين والنهي عن الفرقة والاختلاف ومعصية ولاة الأمر، قال تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وقال تعالى: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]، وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [آل عمران: 105-107].
فالآية الأولى نص صريح في وجوب طاعة أولي الأمر من الحكام والأمراء والعلماء من المسلمين، وجاءت السنة الصحيحة عن رسول الله تبين أَنَّ هذه الطاعةَ لازمةٌ وفريضةٌ في المعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمر في المعروف وليس في المعاصي، فإذا أَمَرُوا بمعصية فلا يُطَاعُون فيها، ولكن لا يجوز الخروج عليهم بأسباب تلك المعاصي أو الأمر بها، بل على المسلم السمع والطاعة في المعروف واعتزال المعصية وعدم الخروج على ولي الأمر لقول رسول الله : ((من رأى من أميره شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية))، وقال : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))، وقال : ((إنما الطاعة في المعروف))، وقال رسول الله : ((إنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون))، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعًا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: ((أدُّوا إليهم حَقَّهُمْ، وأسالوا الله الذي لكم)).
|