أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا كتاب الله فقد حثكم على فعل الطاعات وبين لكم ثوابها وثمراتها لتكثروا منها، ونهاكم عن المعاصي وبين لكم عقابها و آثارها الضارة لتحذروا منها وتجتنبوها، كما أنه وصف لكم الجنة وما فيها من النعيم والفوز المقيم لتعملوا لها، ووصف لكم النار وما فيها من العذاب الأليم والهوان المقيم لتتركوا الأعمال الموصلة إليها، وهكذا كثيرًا ما نجد آيات الوعد إلى جانب آيات الوعيد. وذكر الجنة إلى جانب ذكر النار، ليكون العبد دائمًا بين الخوف والرجاء. لا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من رحمة الله، كما قال تعالى: وَٱلَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ % إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27،28]. وقال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الرعد:6]. وقد وصف الله أنبياءه وخواص أوليائه أنهم يدعون ربهم خوفـًا وطمعًا ورغبًا ورهبًا ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقد أمر الله العباد أن يخافوه ويرهبوه ويخشوه في آيات كثيرة، قال تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. وقال تعالى: فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ [البقرة:40]. وقال تعالى: فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ [المائدة:44]. والخوف المحمود الصادق هو الذي يحول بين صاحبه وبين محارم الله – عز وجل – والرجاء المحمود الصادق هو الثقة بجود الرب سبحانه وفضله وكرمه ولابد أن يقترن معه العمل، قال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]. وقال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[البقرة:218].
فالرجاء لا يصح إلا مع العمل، قال العلماء: والرجاء ثلاثة أنواع:-
الأول: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه.
والثاني: رجاء رجل أذنب ذنبًا ثم تاب منه، فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.
والثالث: رجل متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والرجاء الكاذب.
والواجب على العبد مادام على قيد الحياة أن يكون متعادلاً بين الخوف والرجاء، فلا يغلب جانب الرجاء لئلا يفضي به ذلك إلى الأمن من مكر الله. فيكون من الذين قال الله فيهم: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [الأعراف:99]. ولا يغلب جانب الخوف لئلا يفضي به إلى اليأس من رحمة الله. فيكون من الذين قال الله فيهم: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ [الحجر:56]. ومن الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ لاَ يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ [يوسف:87]. ولذا قال بعض العلماء: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت، وقال بعضهم: الراغب في سيره إلى الله – عز وجل – بمنزلة الطائر. فالمحبة رأسه. والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سَلِمَ الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد وكاسر، وقد وصف الله سبحانه أنبياءه والصالحين من عباده أنهم يجمعون بين الخوف والرجاء فقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ [الأنبياء:90]. قال تعالى: أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].
وابتغاء الوسيلة إليه: هو طلب القرب منه بالعبودية والمحبة. فذكر أنهم تحلوا بمقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه وهي: الحب والخوف والرجاء، فإن من أحب الله تقرب إليه. ومن رجاه أطاعه. ومن خافه ترك معصيته. وبذلك يكون قد اتخذ الأسباب الجالبة للثواب والمنجية من العقاب، فأهل المعرفة بالله هم الذين يعملون بطاعة الله ويخافون الله.
قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ % وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَهُمْ لَهَا سَـٰبِقُونَ [المؤمنون:57-61].
روى الإمام أحمد والترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلت يا رسول الله قول الله: وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يُقبل منه))، قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها. وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانـًا وخشية، والمنافق جمع إساءةً وأمنـًا، نعم إن الذي ذكره الحسن رحمه الله ينطبق على كثير من الناس اليوم؛ فقد انغمس الكثير في المعاصي واتباع الشهوات وإضاعة الصلاة، وجمع المال من المكاسب المحرمة، ولا يخافون عقاب الله، لقد حذر الله هؤلاء وأمثالهم بأخذهم بالعقوبة على غرة منهم وفي حال مأمنهم.
قال تعالى: أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47]. وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـٰتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:97-100].
فاتقوا الله يا من هجرتم المساجد، وتركتم الصلاة مع جماعة المسلمين، أو أخرتم الصلوات عن أوقاتها، أو تركتم الصلاة بالكلية، أما تخافون أن يأخذكم الله على غرة كما أخذ من كان قبلكم من العصاة المجرمين، قال تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلاْوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلاْخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ [المرسلات:16،19]. ألم تسمعوا وعيد الله وإنذاره لكم بقوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً % إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً [مريم:59، 60]. وقال تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]. لقد فسر ابن عباس وغيره إضاعة الصلاة والسهو عنها بأنهما تأخيرها عن وقتها، فكيف بمن يتركونها بالكلية،هؤلاء في سقر وإذا قيل لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلّينَ [المدثر:42،43].
وإذا كان العاملون بطاعة الله يخافون أن لا تقبل منهم طاعتهم كما قال الله تعالى عنهم: وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ فكيف لا يخاف العاصي أن يُعاقب على معصيته، إن جهل هؤلاء بالله هو الذي حملهم على التمادي في معصيته، أما أهل المعرفة بالله فهم أنبياؤه، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء [فاطر:28]. وقال النبي : ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية))، وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)). إن خوف الله تعالى يحبس الإنسان عن المعاصي ولو تمكن منها وكان خاليًا من الناس، كما قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]. وخوف الله تعالى هو الذي يحمل العاصي على المبادرة بالتوبة، كما في قصة الرجل والمرأة اللذين جاء كل منهما إلى النبي واعترف عنده بالزنا وطلب منه إقامة الحد عليه (الرجم) وألحَّا حتى أقيم عليهما الحد ورُجما. ورجاء رحمة الله هو الذي يرغب العبد في الإكثار من الطاعات. وعلى بذل النفوس والأموال في الجهاد في سبيل الله، والخوف والرجاء متلازمان فكل راج خائف وكل خائف راج، فالخوف بلا رجاء يأس وقنوط، والرجاء بلا خوف أمن من مكر الله، وقال بعض السلف: ينبغي أن يغلب في حال الصحة جانب الخوف ويغلب عند الموت والخروج من الدنيا جانب الرجاء ويحسن الظن بالله تعالى، وفي الحديث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)) رواه مسلم.
فاتقوا الله – عباد الله – واعملوا بطاعته راجين ثوابه. واتركوا معصيته خائفين من عقابه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا جَاءتِ ٱلطَّامَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ [النازعات:34-41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
|