أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ أمةَ الإسلامِ أمةَ محمدٍ خيرُ أمة أخرجت للناس، أمةٌ وسط، شهيدة على الناس، هذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن هذه الأمة المسلمة في وحي يُتْلَى إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران: 110]، وكما قال سبحانه: وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وكما قال سبحانه: وَجَـٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَـٰدِهِ هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَـٰكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ [الحج: 78].
هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان، لا يخافون لَوْمَةَ لاَئِمٍ، غايتهم ومقصدهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتبصير عباد الله بالإسلام على الطريقة الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبعُ خَيْرِيَّةُ هذه الأمة وتتأكد وَسَطِيَّتُهَا في دينها الخاتم الكامل الذي لا يقبل التجزئة، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية الأمة الإسلامية ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف لو كان لأمور متعددة من أولها جميعًا؟! إنه يحتاج إلى سنوات لما نقله الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازًا، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خيرية الإسلام والأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف؛ ليبحث كُلٌّ بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول .
إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة، فهي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى كما قال الله تبارك وتعالى في محكم آيات القرآن الكريم: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وفي الآية الأخرى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سُورَتَيْ إبراهيم والنحل وقد جاءت بعد بيان تسخير الله عز وجل لنا الأشياء في هذا الكون، ولو تذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا، لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكرًا وذَلَّتْ رقابُنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله وعرف كلٌّ منا قَدْرَ نفسِه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله ، عندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله عز وجل، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته وحسب سُنَنِهِ الكونية التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 11]، وقال عز وجل: ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال عز وجل: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 53-55]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتًا يطول على السامعين، ولا أعتقد أنهم يَمَلُّونَ استماع أو تلاوة كلام رب العالمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة مُنْذِرَةٌ بالخطر، ليس على الواقعين فيها فقط، بل العقاب ينزل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أُنْزِلَتِ الآن، وهي تُصَوِّرُ واقعَنا وتنذر عاقبة أمرنا وتذكرنا بما جَنَيْنَا وما كنا عليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أيًّا كان، وهو يشمل أمورًا عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد، وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها. والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسراف في النفقة والإنفاق وهو التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى: وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال عز وجل: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141]. وقال لمن أراد الصدقة عمومًا أو الوقف لينتفع به في الدار الآخرة: ((الثلث، والثلث كثير، لأَن تذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يَتَكَفَّفُونَ الناس)).
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وقد تركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها، ولو خالفها لاعْتَلَّتْ صِحَّتُهُ وقُوَاهُ وربما أَوْدَتْ بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى: وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم: وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وقال : ((ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شرًا من بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإن كان لا بد فاعلاً فَثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ))، وقال : ((نحن قوم لا نأكلُ حتى نَجُوعَ، وإذا أكلنا لا نَشْبَعُ)) أي: لا يُدْخِلُونَ الطعامَ على الطعامِ مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملؤون بطونهم حتى يُتْخِمُوها بالطعام ويصلوا إلى الشّبَعِ الْمُفْرِطِ.
|