أما بعد: فلا يزال الحديث موصولاً بسابقه بما أراه مناسبًا للوقت وإن كان لا يراه آخرون، ولكن نظرًا لما نقرأ ونسمع من خلال الإذاعة والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى ولما يعيشه الناس في مثل هذا الوقت من كل سنة لبنيهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأقاربهم وعشيرتهم من حيث مناسبات الزواج، ولما لهذا الموضوع من أهمية فيكثر الكلام سنويًا في المجالس صَغُرَتْ أو كَبُرَتْ وعبر الوسائل الإعلامية على اختلافها إما لغرض الإثارة، أو لقصد المعالجة الفعلية لما يفعله كثير من الناس من مخالفات للشريعة الإسلامية، والحق أنه لا يمكن أن يُعَالَجَ هذا الموضوعُ ولا غيرُه إلا وفق كتاب الله وسنة رسوله محمد ، ولا يزال المجتمع يَصْلَى جحيمَ هذه المخالفات وغيرها حتى يستقيموا على شريعة الإسلام ويطبقوها ويَعُوا المقاصدَ الشرعيةَ ويرضوا ويُسَلِّمُوا تسليمًا لجميع أحكام الله تعالى، وفوق ذلك تَصْفُو نفوسُهم وتطهَّر قلوبُهم من أدنى رَيْبٍ وشَكٍّ في صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ولا يجدوا أدنى حرج في نفوسهم مما قضى الله ورسوله في أي أمر من الأمور، قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36].
ولعل من المناسب أن يكون الاستدلال بالآية الأخيرة موافقًا لما نحن بصدده من أمر الزواج حيث نزلت في زواج زينب بنت جحش رضي الله عنها بِزَيْدٍ رضي الله عنه، ومناسب أيضًا لهذه السلسلة الحالية من الخطب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في الاستشهاد بأي دليل على أي أمر من أمور الشرع.
وكما سبق القول فإن مجتمعات المسلمين لا تزال تَتَنَكَّبُ الطريقَ المستقيمَ ما لم تَسِرْ على هدي الكتاب والسنة في جميع شؤون الحياة، وإن كانت هناك بوادر خير نسمع ونقرأ عنها في بعض البلاد تعالج أمور الزواج التي كثرت المشاكل الزوجية بسببها وأُشْغِلَتِ المحاكمُ بها وامتلأت البيوت بالمطلقات والعوانس بسبب المخالفات الشرعية، بدءًا من الغش والخداع وعدم الصدق والصراحة، ومرورًا بالخِطبة وما بعدها نظرًا لما يكذب به الوسيط أو لما يُظْهِرُهُ الطرفان أو طرف دون آخر، ثم ما إن تمضي أيام قلائل حتى تشتعل نار الفتن في بيوت المسلمين لما كان من الغش والكذب ابتداءً، ثم لما كان على الزوج من تكاليف أثقلت كاهله بالديون وأصبح أسيرًا لِدَائِنِيهِ، وصار ضحيةً بين نَارَيْنِ: إما البقاء مع تلك الزوجة التي يعيش معها حياة النَّكَدِ والتَّعَاسَةِ، وإما أنْ يُطَلِّقَ، وبذلك يكون أَسِيرَ الديون ولا زوجةَ له.
والمخالفات الشرعية كثيرة، والعقبات كذلك، وسبق الكلام عنها في الخطب السابقة، ولكن من المناسب في هذه الأيام الحديث عن مخالفة شرعية كانت منحصرة في بعض مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يعرفُ صورتَها كثيرٌ منهم، ولكنها انتشرت بسبب غلاء المهور وارتفاع التكاليف الأخرى في الزواج، وبسبب التعقيدات الأخرى الكثيرة، لذلك هَانَ أمرُها وأصبحت شيئًا عاديًا كغيرها من المحرمات التي أَلِفَهَا الناسُ واسْتَسَاغُوهَا بسبب تَبْرِيرِهِمْ حُرْمَتَهَا بأمور تظهر أمام العامة بأنها حلالٌ مَحْضٌ لا شُبْهَةَ فيه مع الحرمة الواضحة، وهذا ينطبق على أمور عدة في مجتمعات المسلمين اليوم خاصة في المعاملات، وأصبح الشَّبَهُ باليهود موجودًا في بعض المسلمين حيث ارتكبوا ما ارتكبت اليهود من المحرمات واستحلُّوا ما حرَّم الله بأدنى الحيل كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد .
والمخالفة الشرعية المنتشرة الآن هي: نِكَاحُ الشِّغَار الذي كتب فيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة قيمة مفيدة لطالب الحق وحجة على أهل الباطل، أذكر بعض ما ورد فيها مع التصرف اليسير المناسب للْخُطْبَةِ لبيان الحق وللقيام بواجب النصيحة وإبراء الذمة وتبصير المسلمين بما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم ولقيام الحجة.
فنكاح الشغار هو أنْ يُزَوِّجَ الرجلُ ابنتَه أو أختَه أو غيرَهما ممن له الولايةُ عليها على أنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ أو يزوج ابنه أو ابن أخيه ابنته أو أخته أو بنت أخيه أو نحو ذلك ممن له الولاية عليها، وهذا العقد على هذا الوجه فاسدٌ سواء ذُكِرَ فيه مَهْرٌ أَمْ لَمْ يُذْكَرْ فيه المهرُ، وينبغي التنبه لهذا حيث دخل الشر على مجتمعات المسلمين من هذا الباب حيث اتخذوا تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ حِيلَةً أو دَفْعَ المهرِ نفسِه أو الزيادة اليسيرة للتفريق بين المهرَيْن، ولكنهم غفلوا ونسوا وتناسوا النية والقصد عند الطرفين كِلَيْهِمَا أو أحدِهما وهي الْمُبَادَلَةُ التي لولاها لما تم هذا الزواج، سواء تفاضلت المهور أو تساوت، وهذه النية الباطنة الْمُتَّخَذَةُ حيلة ظاهرة أمام الناس لا تخفى على الله، وبسببها وقعت الفتن والشرور والخصومات والمشاكل بسبب هذه الزيجات الفاسدة التي نهى رسول الله عنها وحذر منها، وقد أمرنا الله عز وجل باتباعه والانتهاء عما نهانا عنه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الحشر: 7]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وكما ورد في الآيتين السابقتين في أول الخطبة وفي غيرهما من كتاب الله عز وجل.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله نهى عن الشغار، والشغار أن يُزَوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق. وروى الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول نهى عن الشغار قال: ((والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو: زوجني أختك وأزوجك أختي))، وقال : ((لا شغار في الإسلام)).
فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على تحريم نكاح الشغار وفساده وأنه مخالف لشرع الله، ولم يُفَرَّقْ فيه بين ما سُمِّيَ فيه مَهْرٌ وما لَمْ يُسَمَّ فيه شيءٌ من المهر إلا ما ورد في حديث ابن عمر من تفسير الشغار بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق، فهذا التفسير قد ذكر أهل العلم أنه من كلام نافعٍ الراوي مولى ابن عمر، وليس هو من كلام النبي ، وقد فسره الرسول بما تقدم في حديث أبي هريرة السابق إيضاحه وبيانه، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته، ولم يقل: وليس بينهما صداق، فدلّ هذا على أن تسمية الصداق أو عدمها لا أثر له في ذلك، وإنما مُقْتَضَى فساد هذا النكاح هو اشتراط المبادلة والاتفاق على ذلك بين الطرفَيْنِ المسؤولَيْنِ عن تزويج المرأتين، وغالبًا يكون هذا الشرط سِرِّيًّا لا يُعْلَنُ عنه، إنما الْمُعْلَنُ عنه هو رغبة كل طرف تزويج الطرف الآخر بمهر مستقلّ لكل من الزوجتين برضا الأزواج المراد تزويجهم على حدِّ زعم ولي الزوجتين، والواقع عدم الرضا منهما أو من إحداهما، وقد يُكتب في عقد كل منهما مبالغ متفاوتة للتضليل والتدليس وليست من الحقيقة في شيء، وفي ذلك فساد كبير لأنه يفضي على إجبار النساء على نكاح من لا يرغبن فيه إيثارًا لمصلحة الأولياء وتحقيقًا لمصالحهم الشخصية دون النظر في مصلحة النساء، وذلك منكر وظلم للنساء، وهو أيضًا يُفْضِي إلى حرمان النساء من مهور أمثالهن كما هو الواقع بين الناس المتعاطين لهذا العقد المنكر حيث جعلوه امرأة بامرأة وفرجًا بفرج، وكثيرًا ما يفضي هذا العمل إلى النزاع بعد الزواج، وهذا من العقوبات العاجلة لمن خالف الشرع.
والواقع الذي عاشه ويعيشه أولئك الأزواج من الرجال والنساء واقع مؤلم وحياة تعيسة ومشاكل لا نهاية لها، وقد أدت إلى سفك دماء وإلى قطيعة أرحام، وإلى بغضاء وشحناء وحقد وعداوات متناهية بسبب الإقدام على نكاح الشغار الذي لم ينتبه ويتفكر ويمعن النظر في الحكمة من تحريمه كثير من المسلمين، ولم يفكروا في العواقب المؤلمة لكثير ممن أقدم عليه، فالحياة الزوجية عقدها يستمرّ مدى الحياة يجب التفكير فيها بكل أمانة وإخلاص والإقدام على بصيرة وتغليب مصلحة الزوجين.
روى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله تعالى بإسناد صحيح عن عبد الله بن هرمز أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أمير المدينة مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهم، وقال في كتابه: (هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ).
فهذه الحادثة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه توضّح معنى الشغار الذي نهى عنه رسول الله في الأحاديث المتقدمة، وأن تسمية الصداق لا تُصَحِّحُ هذا النِّكَاح ولا تخرجه عن كونه شغارًا؛ لأن العباس بن عبد الله وعبد الرحمن بن الحكم قد سَمَّيَا صَدَاقًا، ولكن لم يلتفت معاوية رضي الله عنه إلى هذه التسمية، بل أمر بالتفريق بين كلٍّ من الزوجين، وقال: (هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله )، ومعاوية رضي الله عنه أعلم باللغة العربية وبمعاني أحاديث الرسول من نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم جميعًا.
وهذا الذي ينبغي التنبه إليه في مسألة الشغار الذي قد يخفى على كثير من المسلمين وضوحُ إِشْكَالِهِ من حيث القصد والنية فيه، ومن حيث الحكمة في تحريمه أيضًا، والتي هي خافية أيضًا على الغالبية العظمى.
|