أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن من اتّقى الله وقاه وكفاه عذابَ آخرته وفتن دنياه.
عباد الله، إن من نعم الله على عباده أن اختصَّ بعض الأزمنة والأمكنة بمزيد عناية وفضل، ليزداد من اغتنمها ورعى حرمتها إحسانا، ويبوء من غفل عنها وأهملها خيبة ونقصانا.
ألا وإن من تلك الأزمنة الفاضلة التي أنعم الله بها على أمة محمد شهر الله الحرام، ذلك الشهر الذي أقسم الله به في كتابه في أول سورة الفجر، هو فجر أوّل يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
شهر الله المحرم شهر عظيم من شهور العام، وهو أحد الأشهر الحرم التي نهانا فيها مولانا أن نظلم فيهن أنفسنا؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ: (اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم).
عباد الله، لقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر المحرم شهر الله الأصمّ لشدة تحريمه، قال عثمان الهندي: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم". قال ابن رجب رحمه الله: "من صام من ذي الحجة وصام من المحرم ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلّها طاعة، فإن من كان أوّل عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العمَلين".
عباد الله، ومن فضائل شهر الله المحرم أنه يستحب الإكثار فيه من صيام النافلة، ففي الحديث عن النبي : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) رواه مسلم. قال ابن رجب رحمه الله: "سمى النبي هذا الشهر شهر الله المحرم، فاختصه بإضافته إلى الله، وإضافته إلى الله تدلّ على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى وكان الصيام من بين الأعمال مختصًّا بإضافته إلى الله ناسب أن يختصّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختصّ به وهو الصوم".
عباد الله، ومما اختصّ الله به شهر المحرم يومه العاشر وهو عاشوراء، هذا اليوم الذي احتسب النبي على الله أن يكفّر لمن صامه السنة التي قبله، عن أبي قتادة رضي اله عنه أن رجلاً سأل النبي عن صيام عاشوراء فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم.
وقد صامه النبي تعظيمًا لهذا اليوم، وهو يوم مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظمونه ويصومونه ويتخذونه عيدًا، وذلك لأنه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. أخرجه البخاري. وكذلك النصارى كان لهم حظّ من تعظيم هذا اليوم، بل قريش على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه، تقول عائشة رضي الله عنها: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية.
وبعد: عباد الله، فنحن أحقّ بصيام هذا اليوم من أولئك، فهو يوم نجى الله فيه موسى، فنحن أحق بموسى منهم، فنصومه تعظيمًا له كما قال النبي .
عباد الله، صوم عاشوراء وإن لم يعد واجبًا باتفاق جمهور العلماء فهو من المستحبات التي ينبغي الحرص عليها وذلك لما يأتي:
1- أن صيامه يكفر السنة الماضية كما ورد في الحديث.
2- تحري رسول الله صيام هذا اليوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي يتحرّى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء. أخرجه البخاري.
3- وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه.
4- حرص الصحابة رضوان الله عليهم على تصويم صبيانهم ذلك اليوم تعويدًا لهم على الفضل، فعن الربيِّع بنت معوِّذ قالت: أرسل النبيّ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرًا فليتمّ بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم))، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
5- كان بعض السلف يصومون عاشوراء في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول: "رمضان له عدّة من أيّام أخر، وعاشوراء يفوت"، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر.
عباد الله، إن من فضل الله علينا أن وهبنا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، وهذه الذنوب التي يكفرها صيام يوم عاشوراء هي الذنوب الصغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها كما أشار إلى ذلك العلماء المحققون كابن تيمية وغيره رحمة الله على الجميع.
واستمعوا ـ عباد الله ـ إلى الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله وهو يحذّر ممن يتصوّر أن صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النجاة والمغفرة حيث يقول رحمه الله: "لم يدر هذا المغتر أنّ صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة وعاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر، ومن المغرورين من يظنّ أن طاعته أكثر من معاصيه؛ لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقّد ذنوبه، وإذا عمل طاعته حفظها واعتبرها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزّق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمّل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك من محض غرور" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، وأما مراتب صيام عاشوراء فقد ثبت أن النبي صام يوم عاشوراء، وثبت عنه أنه قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع))، والحديثان في صحيح مسلم، فصام عليه السلام اليوم العاشر فعلاً، وهمَّ بصيام التاسع، والهمّ هنا يأتي يحاكي الفعل، فهاتان مرتبتان ثابتتان في السنة: صيام التاسع والعاشر، ففي صيام العاشر إدراك للفضل، وفي صيام التاسع معه تحقيق آكد لمخالفة اليهود. وذهب بعض العلماء إلى أن مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاث مراتب: صيام التاسع والعاشر، أو صيام العاشر والحادي عشر، أو صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، وذهب فريق من العلماء إلى زيادة مرتبة رابعة وهي صيام العاشر وحده.
وهنا أمر يكثر السؤال عنه وهو: ما العمل إذا اشتبه أوّل الشهر فلم يدر أيّ يوم هو العاشر أو التاسع؟ فيقال ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاث أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر، فمن لم يعرف دخول هلال المحرم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على ذي الحجة ثلاثين كما هي القاعدة ثم صام التاسع والعاشر".
عباد الله، ومما يتعلق بيوم عاشوراء ما أحدثه بعض الناس من البدع فيه، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يفعله بعض الناس بيوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك، فهل في ذلك عن النبي حديث صحيح؟ وإذا لم يرد في ذلك حديث صحيح فهل يكون فعل ذلك بدعة؟ وهل لفعل الطائفة الأخرى من المآتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنياحة وشقّ الجيوب هل لذلك أصل أم لا؟ فأجاب رحمه الله: "لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي ولا عن أصحابه، ولا استحبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا عن النبي ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، لا صحيحًا ولا ضعيفًا"، ثم ذكر رحمه الله ملخّصًا لما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك، فقال رحمه الله: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتغزي بغزاء الجاهلية ـ يشير إلى فعل الروافض ـ، فكان ما زيّنه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد للحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين"، ثم ختم كلامه رحمه الله بهذه الكلمة: "وشر هؤلاء ـ يعني الروافض ـ وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام".
عباد الله، وأما سائر الأمور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة أو تجديد لباس وتوسيع نفقه أو شراء حوائج العام ذلك اليوم أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به أو قصد الذبح أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب أو الاكتحال أو الاختضاب أو الاغتسال أو التصافح أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنّها رسول الله ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين.
اللهم اجعلنا من أهل سنة نبيّك محمد ، وأحينا على الإسلام، وأمتنا عليه...
|