إن أخوة الإيمان أقوى من أخوة النسب، وأقوى من أخوة الحزب وأخوة الحركة، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].
فليس لمسلم عصبية للَون أو لجنس أو لقبيلة أو لبلد، بل كل ذلك من أمور الجاهلية، وإنما الولاء للمؤمنين كلهم بلا تفريق بينهم، قال الله تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4].
ومعنى الولاء: الحب والنصرة والطاعة والمتابعة والنصح والصداقة وتولي الأمور بالإصلاح، ويستلزم ذلك إظهار المودة والتشبه بمن تواليهم واستئمانهم على الأسرار ونحو ذلك. والبراء عكس ذلك، فكل هذه الأمور يجب أن تكون للمؤمنين، ولا يجوز أن تكون للكافرين.
واعلم ـ يا أخي ـ أن الله لم يرض لعباده أن يجتمعوا على راية إلا راية العقيدة والدين، فالناس إما مؤمن تقي وإما كافر شقيّ، لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى، وأما كل الدعاوى الأخرى التي يتعصّب لها الناس كانتمائهم إلى قبيلة واحدة أو إلى وطن واحد أو إلى قومية واحدة أو إلى حركة أو حزب واحد بحيث يصير الإنسان يحبّ ويبغض ويوالي ويعادي بناء عليها فإنها دعوى الجاهلية. قال النبي لما تشاجر بعض المهاجرين والأنصار فقال المهاجرون: يا للمهاجرين، وقال الأنصار: يا للأنصار، قال : ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)) متفق عليه.
إن التحزب قد أعمى كثيرًا من الناس، فأصبحوا يوالون ويعادون في حزبهم وإن كان الشخص المعادى من أتقى الأتقياء، فبمجرد أنه من خارج الحزب فقد وجبت معاداته، ولقد سمعتُ أحدهم يقول مقولة ما سمعت أخطرَ منها: "من ليس من حركتنا فهو ضدّنا".
إن الفتنة بين المسلمين من أبناء شعبنا المسلم في فلسطين ليندَى لها الجبين، ويحتار فيها الحليم، لكن من الواجب أن نبين ما هو المخرج. وقبل ذلك نبين موقف المسلم من هذه الفتنة والاقتتال بين المسلمين:
إنَّ النَّبيَّ كان يحذِّر أمته من الأمور التي تدعو الإنسان إلى أنْ يقتل مسلمًا أو أنْ يجرح مسلمًا، ومن ذلك أنَّ النَّبيَّ نهى أنْ يمرّ المسلم ومعه السهام في أسواق المسلمين أو في مساجد المسلمين أو في أي مكان من أماكن تجمعهم، إلا أن يكون النصل مغطّى حتى لا يجرح به مسلمًا وهو لا يشعر. فقد صحَّ عنه كما عند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنَّه قال: ((إذا مَرَّ أحدكم بمسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك عن نصالها بكفه؛ لا يعقر مسلمًا)).
ومن تلك الأمور التي حذّر منها النبي أنَّه نهى عن الإشارة إلى المسلم بأي شيء يحتمل أنْ يقتله أو يجرحه، نهى عن ذلك وأخبر أنّ من فعل ذلك فإنَّه ربما نال اللعنة والوعيد الشديد، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النَّبيُّ : ((لا يُشِرْ أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينزع يده فيقع في حفرة من النار))، وكما جاء عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإنَّ الملائكة تلعنه وإنْ كان أخاه لأبيه وأمه))، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان وصححه الألباني أنَّه نهى أنْ يُتعاطَى السيف مسلولاً.
إن كل هذا الاحتراز فيه البيان الكافي لشدة حرمة المسلم على المسلم، فنهى النبي عن ذلك خشية أنْ يكون هناك خطأ فيقع السيف ويجرحك أو يؤذيك أو يقع على أخيك.
لقد حرم ذلك وقد كانت الأسلحة في القديم أقلّ بطشًا وخطرًا من الأسلحة الحديثة، حيث إن هذه الأسلحة قد تقتل من مكان بعيد جدًا، فتصبح الحرمة أشدّ تأكيدًا؛ لأنَّ الضرر أعظم والخطر أكبر، والعلة تدور مع الحكم وجودًا وعدمًا.
انظر كيف حذّر النبيّ من دم المسلم، وأكد على حرمة دمه، وقد أكّد أيضًا على خطورة الفتن التي تقع في المسلمين، وحذّر من الدخول فيها، وما ذلك إلا لئلا يقع المسلم في دماء المسلمين؛ لخطورة الأمر وشدته، فالفتن إذا سعّرت وابتدأت يصعب إطفاؤها والسيطرة عليها.
سؤال يطرح نفسه: ما واجب المسلم تجاه الفتن؟
إن نبيك المصطفى حذّر أمته من هذه الفتن، وبيّن أنَّها ستحدث وستكون في هذه الأمة، فكما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تَشرّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأً أو معاذًا فليعذ به)). فالمخرج إذا هو الهروب قدر الاستطاعة كما بيّن لنا النَّبيُّ .
ومن أخطار الفتن أنها تُلبس على المسلم فيرى الباطل حقًا والحق باطلا، فالفتنةُ قد تُريكَ الحقَ باطلاً والباطلَ حقًا، وقد تعميك وتصمّك وأنت لا تشعر، كما عند الترمذي وأبي داود وصححه الألباني من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النَّبيُّ أخبر أنَّ الفتن ستقع في أمته فقال: ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرتفع عنها إلى يوم القيامة)).
وأخبر النَّبيُّ أنه ستأتي فتن في آخر الزمان يكثر فيها القتل وتكثر فيها الفتن حتى إنه من شدة الفتن يمرّ الرجل على القبر ويتمرّغ عليه ويقول: يا ليتني صاحب هذا القبر؛ من شدّة ما يرى من الفتن والأمور العظيمة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول: يا ليتني مكانه)).
ومن أخطارها أن من وقع في هذه الفتن ضاع عقله كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ))، وفي رواية أخرى عند مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يومٌ لا يدري القاتل فيم قَتَلَ ولا المقتول فيم قُتِلَ))، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، القاتل والمقتول في النار)).
لقد ذكر لك النبي ليحذرك من أن تكون من أولئك أو من أن تشارك في سفك تلك الدماء أو أن تتلطّخ فيها أو أن تلقى الله بها. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((يَتقاربُ الزمانُ، ويُقبَضُ العلمُ، ويُلقَى الشحُّ، ويَكثرُ الهرجُ))، فقيل: وما الهرجُ؟ قال: ((القتل)).
وقد يستطيل من وقع في هذه الفتنة في الظلم فيقتل أقرب الناس إليه لأنه يفقد عقله، وقال أيضًا كما عند ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وصححه الألباني: ((إنَّ بين يدي الساعة لهرجًا))، قال: قلت: يا رسول الله، ما الهرج؟ قال: ((القتل))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله : ((ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته))، فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟! فقال رسول الله : ((لا، تنزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم)).
فتبين لنا من أحاديث رسول الله أنه من الواجب على المسلم وقت الفتن أن يبتعد عنها كل البعد؛ لأنَّ النَّبيَّ أرشد أمته إذا أدركوا الفتن أو أحسوا بالفتن أنْ يبتعدوا عنها كلّ البعد، وأنْ يهربوا منها كل الهرب؛ لأنَّ الفرار من الفتنة من الدين، فقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه: "باب: من الدين الفرار من الفتن".
ولقد آثرتُ أن أذكر الأسباب التي من شأنها أن توقع الفتنة بين المسلمين وهي التعصب للأحزاب.
أخي المسلم الكريم، إنَّ منبر رسول الله يجب أن لا يكون منبرًا للدعوة إلى التهجّم على المسلمين والسبّ والشتم كما يفعل الكثيرون من الخطباء، بل وقد يجعل منه البعض ملاذًا للفتنة متجاهلاً قول النبي كما عند الإمام مسلم وعند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)). وبيّن أن المسلم ليس من خلُقه اللعان والسباب والشتم قائلاً: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث عبد الله ابن مسعود وصححه الألباني في الجامع والمشكاة والسلسلة.
لتعلم ـ أخي المؤمن ـ كما قال الشيخ الألباني: فإن الإسلام يحارب هذا التفرقَ الذي ينافي التكتل، ولكن التكتل ينافي التحزب أيضًا، لأن التحزب يعني التعصب لطائفة من الطوائف الإسلامية ضد الطوائف الأخرى، ولو كانوا على الحق فيما هم سائرون فيه. وبين شيخنا أن من شرور التحزب معاداة من لا ينتمي للحزب قائلاً: إن من آثار سلبيات التعصب للطوائف والأحزاب أنهم يعادون من لم يكن في تكتلهم وفي منهجهم ولو كان أخًا مسلمًا صالحًا، فهم يعادونه لأنه لم ينضم لهذا التكتل الخاص أو التحزب الخاص.
إن من واجب من ينتمي لتلك الأحزاب أن يقدّم النصح لإخوانه في الحزب أنه يجب أن يكون الولاء والبراء ليس على الحزب وإنما في الله، ولو كان هذا واقعًا ما رأينا أن جدران المساجد قد قسّمت بينهم كل حزب له مساحة من المساجد وقد قال الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، ليس لحزب دون آخر، وليس لجماعة دون أخرى، بل وتقرأ على هذه الجدران ما يهيّج النفوس ويستفزّ المشاعر ويزيد من الحقد بين المسلمين، فيصبح من واجب القائمين على المساجد أن لا يسمحوا بتعليق هذه الملصقات التي هي منبع للفتنة، وأن يكون الخطيب مصلحًا لا مهيّجًا، ذا خلق عظيم وليس ممن هم ذوو ألسنة سليطة حادة على المؤمنين.
|