الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأشهد أن لا إله إلا الله التواب الرحيم وحده لا شريك له في ملكه ولا في أمره وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبيّنا محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله تعالى رحيم بعباده، لطيف بهم، عليم بما يصلحهم، ومن رحمته سبحانه بعبادة المؤمنين وإرادته الخير لهم ولطفه بهم أن يبتليهم بأنواع المصائب والابتلاءات؛ من تأخّر الغيث وفساد الثمار وغلاء الأسعار ونزع البركات وغير ذلك من المصائب؛ عظة وتذكيرا لهم وتنبيهًا لئلا يتمادوا في عصيانهم ويلجّوا في طغيانهم.
قد ينعم الله بالبلـوى وإن عظمت ويبتلـي الله بعض النـاس بالنعم
وإن الله بحكمته البالغة يبتلي عباده ليبتهلوا إليه، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43]. إنّ ربنا جل شأنه يريد منا أن نتضرّع إليه ونبتهل وننكسر بين يديه.
إن تأخّر المطر والنقص في الأرزاق رحمةٌ من الله بعباده؛ حتى يرجعوا إليه ويتوبوا ويتضرّعوا ولا يطغوا، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 94].
إن بسط الرزق على العباد قد يورثهم البغي والطغيان، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى: 27]، أي: لغفلوا عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتّع بشهوات الدنيا، ويطغى بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا. قال سبحانه: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، قال قتادة: "خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك"، ما لا يلهيك بطلبه، ولا يطغيك بكثرته.
والله أرسل لنا النذر والآيات تخويفًا وتنبيهًا؛ لنرجع إليه ونتوب. إننا منذ سنين نرى الآيات والنذر من حولنا وتحلّ قريبا من دارنا ثم هي قد نزلت بنا وربّنا يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27]، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] بالقحط وقلة الأمطار، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126] أي: يمتحنون ويختبرون.
انهارت سوق الأسهم والأسواق المالية في دوَل الخليج وكثير من الدول العربية، وجاءتنا رياح شديدة وعواصف مظلمة مخيفة وبرد شديد، أجدبت الأرض وغلت الأسعار وتأخرت الأمطار، وكلها نذر، هذه وغيرها نذر من الله عز وجل؛ لنتوب وتخشع القلوب ونتضرّع ونرجع إليه، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16].
إننا على خطر عظيم حين نصل إلى أعظم العقوبات وهي عدم الشعور بالعقوبة وعدم الاكتراث بالذنب، حينها تموت القلوب وقد تبسط علينا الدنيا استدراجًا، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 43، 44].
إنّ ربنا قد يبسط الرزق على الناس استدراجًا لهم حتى إذا أخذهم أخذَهم بعزّة واقتدار، وهو سريع الحساب أليم العقاب شديد العذاب.
نسأله أن يعاملنا برحمته ولطفه...
|