أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واذكروه، وارعوا نعمة الله التي أنعم بها عليكم وأخبركم أنكم لا تستطيعون عدها ولا حصرها، فإن النعم تتقيّد بشكرها، وإن الله تعالى قد وعدكم بالزيادة إن شكرتم وتوعدكم بالعذاب إن كفرتم، فقال جل وعلا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون، لقد كانت جزيرة العرب مرتعًا للجهل والفوضى قبل بعثة النبي ، وكان سكانها أهل جاهلية جهلاء وفي ضلالة عمياء، كان فيهم القوي يأكل الضعيف، وكانت تستهين بهم الحضارات المجاورة في بلاد فارس وفي بلاد الروم، بل كانوا يعتبرون الجزيرة العربية مَهلَكة ليس فيها إلا قوم رعاة للأغنام وقوم يغزو بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا، حتى أكرم الله العرب بالإسلام ببعثة محمد ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].
لقد خرج محمد في شعاب مكة ينادي بـ"لا إله إلا الله" ليعتز بها العرب يوم تمسكوا بها ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، فعزوا بعد ذلّ، واجتمعت كلمتهم بعد فرقة، وأغناهم الله بعد فقر، وخضعت الجزيرة العربية كلها لدعوة محمد قبل أن يفارق هذه الدنيا ملبّيًا نداء ربه، وأنزل الله تعالى عليه في آخر أيامه في صعيد عرفات قوله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]، فصلحت بعد فساد، وانتظمت بعد اختلال، وتوحّدت بعد شتات.
ثم تكرّر المشهد قبل عهد الإمام المجدد شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأعظم له الأجر والمثوبة، فقد قام بالدعوة إلى الله وتصحيح عقيدة المسلمين من الشركيات والبدعيات، وقيض الله له أنصارًا من أمراء آل سعود فآزروه ونصروه، فاحتضنوا هذه الدعوة السلفية النقية التي تدعو الناس إلى عبادة الله من جديد، فاجتمعت قوة العلم وقوة السلطان، فأصبحت هذه البلاد مضرب المثل في توفير الأمن والاستقرار وصفاء العقيدة، وتوارث ذلك الأجيال اللاحقة من أبنائهم وأحفادهم إلى يومنا هذا ولله الحمد والمنة.
كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله ثم جهود القائد الموحد الإمام الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، حيث أعادها جذعة من جديد دعوة سلفية خالصة واجتماعًا وألفة ومحبة، فاجتمعت القلوب والنفوس الطيبة والآراء الصائبة على جمع شمل هذه الجزيرة من حجازها ونجدها وشمالها وشرقها وجنوبها تحت اسم المملكة العربية السعودية أعزها الله، فلا يوجد بين أبناء هذا الوطن أيّ ميزة غير الإسلام، ولا فضل لأبيض على أسود ولا فضل لغني على فقير ولا للون ولا لجنس، فالجنسية واحدة من شمال البلاد من حدود بلاد الشام وإلى حدود بلاد اليمن، ومن شاطئ الخليج إلى شاطئ البحر الأحمر، كلهم إخوة في الله، كلّهم سعوديون، وإذا قيل هذا الاسم ذُكِر الإسلام والإسلام وحده، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وهذه نعم كبرى وآيات عظمى تفضل بها رب السموات والأرض على أهل هذه الجزيرة، فنحن نعيش اليوم راحة في جميع متطلبات الحياة الدنيا، فكان هذا الأمن والرخاء والعز والفلاح، فمنذ أن فتح الملك عبد العزيز مدينة الرياض ونحن من خير إلى خير ومن عز إلى عز ومن فضل إلى فضل، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21]، وصدق المولى جل جلاله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج: 41].
نعم أيها الإخوة المؤمنون، لقد عجزت تجارب كثيرة في بلاد مجاورة وغير مجاورة عن اتحاد الناس وجمع كلمتهم، الكثير منكم يسمع عن أحوال كثير من البلدان في العالم، يقتَلون ويحرّق بعضهم بعضًا، وكلهم مسلمون، ومع ذلك لا يستطيعون الاجتماع والاتحاد، كما يحصل التفرقة والشتات والنزاع والشقاق والحرب بين أبناء كثير من البلدان أصغر من بلادنا هذه بكثير وأقل منها شعبًا، فما بالكم ببلاد واسعة كالمملكة العربية السعودية وما فيها من البلاد واتساع مساحتها؟! ومع ذلك خضعت كلها لله رب العالمين، ونجحت هذه الأسرة المباركة أسرة آل سعود في جمع الناس على راية "لا إله إلا الله"، ولولا ذلك لم يجتمع لهم الناس، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والفضل، وهذه نعم نذكر بها أنفسنا وأبناءنا من الأجيال المتأخرة ممن لم يدركوا حال الأجداد يوم كان الناس في رعب وخوف وجهل ومرض واضطراب، كل قبيلة تغزو الأخرى، وكل قرية تحارب الأخرى، فالحمد لله أولا وأخرا، ثم الحمد لله حمدًا لا كفاءَ له على ما أنعَم وأسدَى.
هذه المقدمة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أذكرها لا تفاخرا ولا تعاليا، ولكن ليتضح أمام ناظرَي كلّ عاقل ومنصف ويظهر لكل مسلم أننا لا نحب بلادنا فطرة فحسب، ولكننا نحبها فطرة وجبلة وديانة. نعم أيها المسلمون، إن من أعظم نعم الله علينا أن جعلنا مسلمين ثم نعمة الأمن والإيمان والصحة في الأبدان، ونعمة الاجتماع والائتلاف والاعتصام والاستقرار والعزة والمنعة لهي من أعظم نعم الله علينا، والله تعالى قد اختارها واجتباها وهو يخلق ما يشاء ويختار قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78]. وإن تذكيرنا لكم ـ أيها الإخوة ـ ببعض نعم الله التي تترادف عليكم في هذا البلد الأمين إنما هو امتثالاً لأمر رب العالمين في كتابه المبين: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11].
فالنعم تترادف وتدوم وتزداد إذا شكرت وأدّى الناس حقوقها، فيجدر بنا ـ أيها الإخوة ـ أن نتحدث ونلهج بذكر الله وشكره، ونطلب المزيد من فضله، ونستجلب رضاه ونعمه بطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر؛ لتدوم هذه النعم، فما أحوجنا إلى شكر الله! والاستقامة على دينه مصدر عزنا وفخرنا وسبب أمننا واستقرارنا ورخائنا، فالمؤمن الحق هو الذي يعرف قدر نعمة الله عليه ثم يشكرها حق شكرها لتدوم وتبقى، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون، إن كلامنا اليوم لا مجاملة فيه؛ لأنه ينبع من قلب غيور على وحدة هذا الوطن الغالي وحبه له ولقادته الكرام وأهله أهل العزة والكرامة والنخوة والشهامة، ولا يساور أحد شكّ في غيرتكم وحبكم لهذا الوطن الغالي كما يغار عليه كل مواطن مخلص لأن حب الوطن فطرة بشرية فطر الله الناس عليها، فمن منطلق حبنا لهذا البلد المبارك بلاد الحرمين الشريفين وقبلة جميع المسلمين وموطن سيد الثقلين نَجْهدُ في النصح له وفي القيام بواجباتنا تجاهه، وليعلم كل واحد منا أنه حارس للمجتمع ومرابط على ثغر من ثغور الأمة، ومن هذا المنطلق ـ أيها الإخوة في الله ـ أرجو تقبل كلامي إن رأى أحدكم فيه شيئا من القسوة؛ لأنه من باب وضع اليد على الجرح النازف، هي تضغط عليه وتؤلمه بيدَ أنها تريد وقف نزيفه وحفظ حياته، وإن الجرّاح ليضع مشرطه في جسد المريض ويقطعه، وربما استأصل بعض أجزائه، ولكنه يريد إصلاح الباقي، وينشد عافية ونجاة حياة المريض لا شك، وهي كلمة من القلب للقلب لا أريد بها إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فأقول متوكلا على الله:
إنه لا يخفى عليكم ـ أيها الإخوة ـ ظاهرة ظهرت علينا في السنوات الأخيرة في أنحاء البلاد، وهي ما تسمى بـ(مزاين الإبل)، وتقام فيها بعض المسابقات الوطنية العامة المفتوحة لكل القبائل، ثم نحت القضية منحى آخر فصارت كل قبيلة تقيم لها مهرجانًا خاصًا، لا يخلو من دعوى الجاهلية وهي العنصرية، ولا يخلو من التفاخر والتبذير، وإن من المؤسف أن تكون الإبل وقود هذه العصبية المقيتة.
وقبل أن أتحدث عن هذا الموضوع الهام أقول: اللهم اشهد أننا نُكِنّ كلّ تقدير واحترام لكل قبائل هذه البلاد، ونوجّه هذا الكلام لكل هذه المهرجانات القبلية، ولا نخصّ بالنقد قبيلة ولا مهرجانًا بعينه، وإن العاقل ليتساءل: ما الذي يستفيده الوطن أو المواطن من هذه المسابقات القبلية؟! وهل تأملنا قليلاً في المصالح والمفاسد المترتبة عليها؟! وحتى نكون منصفين فإن هذه المسابقات والتجمعات القبلية لا تخلو من بعض المصالح من إشاعة الألفة والتضامن بين أبناء القبيلة وتجديد أواصر القربى وتأكيد صلة الرحم، وربما يكون فيها بعض الفعاليات الدينية والثقافية والدعوية، وهذه المصالح المدَّعاة يجب أن لا تعمينا عن النظر في المفاسد الأصلية المترتبة على هذه الاجتماعات، ومنها:
أولا: لا شكّ أن المسلمين اليوم في أمسّ الحاجة إلى الوحدة واجتماع الصّف، ولو كانت هذه التجمعات لا يحضرها إلا العقلاء والأخيار لما سلمت من آثار التعصب الخفي والمعلن، فكيف والدهماء والرعاع وعوام الناس هم قوامها وجمهورها في الغالب، الحقيقة أن القضية تعدّت (مزاين الأبل) إلى إثبات وجود ومكانة القبيلة، بل وإحياء النعرات المدفونة تحت رماد الماضي، والتغنّي بأمجاد القبيلة وقصص الانتصارات على القبائل الأخرى، وهذا الأمر خطير جدًا، وشهد شاهد من أهلها، فقد قال أحد ملاك الإبل المعروفين في المملكة: "للأسف أن النعرات القبلية والعنصرية موجودة في مهرجانات مزاين إبل القبائل". ولا بد أن نشير بكل أسف إلى دور الأمسيات الشعرية في إشعال فتيل التفاخر والعصبية وقيام بعض الشعراء بإثارة النعرات القبلية بين أبناء القبائل، ويكفي أن تنظر لشريط الرسائل في إحدى قنوات الشعر الشعبي وكيف يتنابز بعضهم ببعض، فالأول يقول: من أنتم يا بني فلان وأنتم كنتم كذا وكنّا كذا، فيرد الآخر ببيت شعر: حنا كنا كذا وجدانك كذا. والأدهى من هذا أن تتسلّل هذه العادة الجاهلية إلى أطفالنا وسفهاء الأحلام منا مع رضا والديهم وللأسف, وهذا والله نذير سوء؛ لأنه يغرس مفاهيم خاطئة في نفوس الناشئة، أضف إلى ذلك ما تعيشه كثير من المجتمعات من ويلات العصبية التي تجرّ ذيلها في الأحياء والشوارع والمدارس.
يا هؤلاء، إن التفاخر بالأنساب والأحساب والعصبية القبلية والتحزبات الجاهلية أعمال محرمة، قال عنها الحبيب : ((دعوها فإنها منتنة))، وقال فيها: ((ليس منا من دعا إلى عصبية)). إن هذه الأعمال تولد الصراع وتجلب الفرقة وتذكي الضغينة بين أبناء هذه الأمة في الوقت الذي يتربص الأعداء بها من كل جانب.
فيا هؤلاء، إن قبائل هذه البلاد المباركة قبائل معروفة، وتاريخها عريق في نصرة الدين وتوحيد هذه البلاد، وتقديم أبناء بررة في شتى التخصصات، وليست في حاجة لمثل هذه العصبيات والمهرجانات لتعرف بنفسها وتفاخر بمجدها.
ثانيا: الإسراف والتبذير وصرف المبالغ المالية الكبيرة في ما لا طائل وراءه، هناك تنافس ماديّ بين مشايخ وتجار القبيلة الواحدة لدعم هذه الاحتفالات، يصل إلى حد الإسراف المخيف والمنذر بانتقام الله، في الوقت الذي يعاني فيه كثير من أسر هذه القبائل وأفرادها من الفقر والإعسار والبطالة، بعض المهرجانات بلغت التبرعات فيها عشرات الملايين، بينما لا يوجد صندوق خيري واحد لسدّ حاجة الفقراء والمعسرين والأيتام وغيرهم.
ثالثا: التضييق على بعض المتعفّفين من مستوري الحال وإحراجهم للمشاركة الماليّة في المناسبة.
رابعا: المغالاة في أثمان الإبل بمبالغ خيالية لا شك في دخولها في الإسراف والتبذير المحرم. نعم، هناك من يهوى الإبل ويطلب الرزق بالمتاجرة فيها، ولكن هذه التجارة لا بد أن تكون في حدود المعقول، وليس كما نراه اليوم، المستفيد الأول من هذه المسابقات هم شيوخ القبائل وتجار الإبل، وهم أغلب المشاركين فيها، لقد أصبحت هذه المهرجانات أشبه ما تكون بالميسر المحرم، إثمه وضرره أكبر من نفعه، يكفي أن تعرف أن هذه الإبل لا تشترى للبنها ولا للحمها وإنما لجمالها، ولو أحجم بعض القادرين عن التداول فيها لبارت هذه السلع بيد أصحابها.
فيا هؤلاء، انظروا موقفكم من نعم الله، وتأملوا أحوال من حولكم ممن تنكروا لنعم الله واستكبروا في الأرض كيف دهمهم أمر الله، حتى لقد ملّكهم خوفًا وذعرًا، فبدلوا بالنعمة نقمة بالمنحة محنة، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]. فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، واتقوا أسباب سخطه وعقوبته، واشكروه على آلائه ونعمائه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والحذر من أسباب زوالها وتحولها، ولنعلم أنه قلّ أن زالت نعمة عن قوم ثم عادت إليهم، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16]، وقال سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141].
أيها الإخوة، إن العاقل اللبيب هو الذي لا يغيب عن باله فضل الله عليه، وكلما تذكر نعمة الله عليه ازداد له حمدًا وشكرًا، والله تعالى أمر نبيه بأن يحدث بنعمته عليه في قوله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]. ولا شكّ أن الإبل آية ربّانيّة، فلقد جاء الإسلام فرفع من شأن الإبل بما هو أهم وأعظم من مجرد النفع الدنيويّ، فجعل الله في التأمل فيها والنظر إليها وسيلة لمعرفة عجائب قدرته، وجعل النظر إلى كيفية خلقها مقدَّما على التأمل في السماء والجبال والأرض، وهذا مدخل إلى الإيمان الخالص بقدرة الله وجميل صنعه، ففي سورة الغاشية قال تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17-20]. ففي هذه الآيات الكريمة يخصّ الله سبحانه وتعالى الإبل من بين مخلوقاته الحية، ويجعل النظر إلى كيفية خلقها أسبق من التأمل في كيفية رفع السموات ونصب الجبال وتسطيح الأرض، ويدعو إلى أن يكون النظر والتأمل في هذه المخلوقات مدخلاً إلى الإيمان الخالص بقدرة الخالق وبديع صنعه. في هذه الآية الكريمة يحضنا الخالق العليم بأسرار خلقه حضًا جميلاً رفيقًا على التفكير والتأمل في خلق الإبل أو الجمال باعتباره خلقًا دالاً على عظمة الخالق سبحانه وتعالى وكمال قدرته وحسن تدبيره، والنظر ومشاهدة الإبل كان من الأمور السهلة والممكنة في زمن النبي حين كان الجمل جزءًا من حياة كل إنسان في الجزيرة العربية. فلا شك أن الإبل رمز وطني اهتمّ به آباؤنا وأجدادنا، وكانت الإبل في وقتهم تحظى بعناية غير مُبالغ فيها، وأسعارها معقولة، مع أنهم كانوا أكثر حاجة منّا إليها.
هذه بعض مفاسد مسابقات المزايين، ومع هذا فلا يزال بعض الناس يكابر، بل إن أحدهم يتشدق بقوله تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ على مشروعية هذه المسابقات، وقد ردّ عليه أحد الشعراء بقوله:
سيجمـع الجمـعُ أموالاً وأموالاً فِي ذاك بغيتُهم حِـلاًّ وترحـالاً
لا للفقـيـر ولا للبـر سعيُهـمُ لكن لأمرٍ غـلا في اللّغو إيغـالا
يـا أمةً رغم ضعفٍ بـات ينهشها أمست تنازع ربَّ الكون سربالا
وتدّعـي أنـه عن أمـر بـارئها وأنـه في جمـال الإبل قد قـالا
والله قـال: انظـروا فيها لتعتبروا ولَم يقل: فانتقوا منهن أشكـالا
ولم يقل: واجعلـوا في ذاك محتفلاً وقوموا الليل تصفيقًـا ومـوّالاً
و أترعـوه بنعرات قد اندثـرت وأنفقوا الْمال تبذيرًا وإضـلالاً
سبحان الله! كيف يجتمع الناس هذا الاجتماع الشعبي الكبير من أجل جمال حيوان لا ينطق ولا يتكلم, ويجعلونه في كامل أناقته وزينته، ويتقافزون طربًا من أجل شفَتَيه أو رقبته، وفي القبيلة ذاتها بشر لا يجدون ما يسدّ رمقهم ويقضي حاجتهم؟! لماذا لا نجتمع لسد حاجة الآلاف من أسرنا المحتاجة أو شبابنا العاطل أو المحتاج للزواج وبناتنا العوانس المحتاجات للزواج؟! هل مزايين الإبل أهم عندنا من بناتنا مزايين الخلق والدين؟! وقد يتساءل بعض الناس عجبًا: أين عقلاء القوم؟! وهل يمكن أن يجتمع كل هؤلاء على باطل؟! فنقول: لا تعجب، فإن التجمعات الكبيرة الجماهيرية المشوبة بالمشاعر والحماس يتساوى فيها العاقل والجاهل، ويصبح التمييز فيها معدومًا، خصوصًا في الأمور التي مرجعها الشعور كالأدب والقبيلة والجماعة, فينحّى تحكيم العقل فيها، ويصبح الشعور هو سيد الموقف.
أيها المسلمون، ويبقى السؤال الهام: ما الحكم الشرعي لهذه المسابقات والمهرجانات؟ لقد صدرت الفتوى من اثنين من علمائنا الكبار بتحريم مسابقات (مزايين الإبل) بوضعها الحالي:
فقد سئل معالي الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء عن مسابقات (مزايين الإبل) فقال: "لا تجوز المشاركة في ذلك لما فيه من المنكرات من بذل الأموال الطائلة بغير فائدة والله جل وعلا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، ولا يجوز أخذ العوض عن المسابقات لأنه من القمار إلا ما استثناه الرسول بقوله: ((لا سبق إلا في ثلاث في نصل أو خف أو حافر))، والمراد بذلك المسابقة على الخيل أو على الإبل أو على الرماية لأجل التدرب على الجهاد في سبيل الله، وما عدا ذلك لا يجوز أخذ الجوائز عليه من المسابقات؛ لأنه أكل للمال بالباطل وهو داخل في الميسر والقمار" اهـ.
وممن أفتى كذلك في ظاهرة (مزايين الإبل) معالي الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء، فقد ذكر أن فعاليات ومسابقات (مزايين الإبل) هي من البدع الضالة، وأكد أن كُلَّ من ينساق وراء هذا النوع من السباقات مشمول بصفات التبذير والإسراف وكذلك التغرير ببسطاء العقول. وكان الشيخ المنيع تلقى سؤالاً في هذا الخصوص، فحواه أن بعض المواطنين يتفاخرون بكرائم الإبل (المزايين)، ووصل حد التفاخر إلى التغالي بأسعارها وتداول بيوعها بأثمان باهظة جدًا، يصل البعير أو الناقة إلى مليون ريال أو مليونين أو أكثر، وامتد هذا التفاخر إلى قبائل البادية وإلزام مشايخ هذه القبائل أفرادها بدفع مبالغ مالية للدخول في هذه المفاخرات. وأكد فضيلة الشيخ المنيع في فتوى أصدرها بذلك أن هذا التفاخر مما كان لدى الجاهلية من الأعراف والتقاليد البالية المتنافية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ومن ذلك العدل في الإنفاق والبعد عن الإسراف والتبذير، مذكرًا بقول الله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27]، وقوله تعالى في شأن المال وحفظه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء: 5]. وأشار الشيخ عبد الله المنيع إلى أن مشايخ القبائل حينما يلزمون أفرادهم بمبالغ ينفقونها للدخول في هذا التفاخر والتباهي يعتبرون ظالمين لإخوانهم وإخوانًا للشياطين من حيث الإسراف والتبذير، والله سبحانه وتعالى غيور على حدوده ونعمه، ولا شك أن المتجاوزين لهذه الحدود والكافرين بنعم الله جديرون بغضب الرحمن. وأضاف في فتواه: "يغلب على الظن أن نفوق الإبل الذي حدث أخيرًا هو عقوبة من رب العالمين على هذا الانحراف بالأموال إلى الإسراف والتبذير"، سائلاً المولى عز وجل أن يعيد أهل هذا التصرف الآثم إلى رشدهم.
فيا أيها الإخوة، هذا ما أفتى به كبار علمائنا، وإن لنا في ذلك لعبرة، فاسمعوا وخذوا النصيحة منهم، ولا تزهدوا في كلام الناصحين، اضبطوا عواطفكم بالشرع المطهر، وانصروا دينكم وأمتكم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعًا لشكر نعمته والاستقامة على طاعته، وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر.
أيها الإخوة المؤمنون، قد كتبت ما قلت وسمعتم...
|