أمّا بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وخير ما يوصى به هو التقوى، فهو الزاد الذي به الإيمان يقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. ثمّ تأهّبوا للقاء الله العظيم، فها هي الأيام تجري سِراعًا، والشهور تمضي تِباعًا، والقبور مُشرَعةٌ أفواهُها، والمصير محتوم، والأجلُ مكتوم، فرحم الله عبدًا تأهّب للخاتمة، وجعل دنياه لدينه خادمةً، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19].
أيّها المسلمون، لقد كرّم الله الإنسان بالعقل، وجعله مناطَ التكليف، وأحاطه بالخطاب والتنبيه في القرآن والحديث الشريف. بالعقل تميّز الإنسان وتكرّم، وترقّى في شأنه وتعلّم، جعله الشارع الحكيم ضرورةً كبرى، وشرع لصيانتِه الحقَّ والحدّ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]. بالعقل يميّز الإنسان بين الخير والشرّ والنفع والضرّ، وبه يتبيّن أوامرَ الشرع ويعرف الخطابَ ويردّ الجواب ويسعى في مصالحه الدينيّة والدنيويّة، فإذا أزال الإنسان عقله لم يكن بينه وبين البهائم فرق، بل هو أضلّ منها، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44]، بل قد يُنتفع بالحيوان، أما الإنسان فلا يُنتفع به بعد زوال عقله، بل يكون عالةً على غيره، يُخشى شرّه ولا يُرجى خيره. ومع كلِّ ذلك فقد أبى بعض التائهين إلاّ الانحطاط إلى درَك الذلّة والانحدارَ إلى المهانة والقِلّة، فأزالوا عقولَهم معارضين بذلك العقل والشرعَ والجِبِلّة؛ وذلك بتعاطي الخمور والمسكرات والمفتّرات والمخدّرات.
أيها المسلمون، آفةُ المجتمعات اليوم هي المسكرات والمخدّرات، أمّ الخبائث أمّ الكبائر وأصل الشرور والمصائب، شتَّتِ الأسَر، وهتكتِ الأعراض، وسبّبت السرقات، وجرّأت على القتل، وأودت بأصحابها إلى الانتحار، وأنتجت كلّ بليّةٍ ورذيلة، أجمع على ذمّها العقلاء منذ عهد الجاهليّة، وترفّع عنها النبلاء من قبلِ الإسلام، فلمّا جاء الإسلام ذمّها حرّمها ولعنها ولعن شاربَها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولةَ إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة: 90، 91]. بيّن الله تعالى مفاسدَ الخمر، وأنها رجسٌ ونجَس، وأنها توقع العداوةَ والبغضاء، وتصدّ عن الصلاة، وتصدّ عن ذكر الله، وأنها سببٌ لعدم الفلاح.
والخمر المحرّمةُ هي كلّ ما خامر العقل مهما كان نوعُه وأيًّا كان اسمُه، قال رسول الله : ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ)) رواه مسلم، وفي الصحيحين أن النبيَّ قال: ((كلُّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ))، وعن جابر أن النبي قال: ((كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال))، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: ((عرقُ أهل النار)) أو: ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ قال: ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب لم يشربها في الآخرة)) رواه مسلم وأخرجه البخاريّ مختصرًا، وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح أنّ النبيّ قال: ((مُدمن الخمر إن مات لقِيَ الله كعابدِ وثنٍ)). إنّها نصوصُ زجرٍ ووعيد وتخويفٍ وتهديد يقفُ عند حدّها من يعلَم أنه محاسَبٌ غدًا أمامَ الله العظيم.
عبادَ الله، والمخدّرات بأنواعها شرٌّ من الخمر، فهي تفسد العقل، وتدمّر الجسد، وتُذهب المالَ، وتقتُل الغيرةَ، فهي تشارك الخمر في الإسكار وتزيد عليها في كثرة الأضرار، وقد أجمع الناس كلّهم من المسلمين والكفّار على ضررِ المسكرات والمخدّرات ووبالها على الأفراد والمجتمعات، وتنادت لحربها جميع الدول وتعاهدت، وأدرك الجميع مخاطرها، حتى قال المنظرون: إنّ خطرَ المخدّرات وتأثيرها المدمّر أشدُّ فتكًا من الحروب التي تأكل الأخضر واليابسَ وتدمِّر الحضارات وتقضي على القدرات وتعطّل الطاقات.
أيها المسلمون، نتحدّث عن المسكرات والمخدّرات في وقتٍ ضجّت بالشكوى فيه البيوت واصطلى بنارها من تعاطاها ومن عاشره، وأحالت حياتَهم جحيمًا لا يُطاق، فوالدٌ يشكي وأمٌّ تبكي وزوجةٌ حيرى وأولادٌ تائهون في ضيعةٍ كبرى، ومن عوفي فليحمدِ الله. المخدّرات تفسد العقل وتقطع النسل وتورث الجنون وتجلب الوساوس والهموم وأمراضًا عقليّة وعضويّة ليس لها شفاء، وتجعل صاحبَها حيوانًا هائجًا ليس له صاحب، وتُرديه في أَسوَأ المهالك، مع ما تورثه من قلّة الغيرة وزوال الحميّة حتى يصير متعاطيها ديّوثًا وممسوخًا. وما تفكّكتِ الأسَر إلاّ من أثرها، وتفشّتِ الجرائم إلا بسببها، ومع غلائها فإنّ مروِّجَها من أفقر الناس وأتعسهم حالاً. أمّا متعاطيها فإنّها لا تزال تستنزف مالَه حتى يضيقَ بالنفقة الواجبة على أهله وأولاده وعلى نفسه، وحتى تصبح أسرتُه عالةً يتكفّفون الناس، وربّما باعَ أهلَه وعِرضَه مقابلَ جرعَةِ مخدّر أو شَربةِ مسكرٍ، فهل من قلوبٍ تعي أو عقولٍ تفكّر في النهاية الموحشة والآثار المدمّرة لهذه البلايا؟! مع فَقدِ الدين وضياعِ الإيمان، ففي الصحيحين أن النبي قال: ((ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن))، وقد قال عثمان بن عفان : (إنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجلٍ إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
عباد الله، لانتشار هذا الوباء أسبابٌ وبواعث، منها ضَعف الإيمان وضَعفُ الوازع الدينيّ والأزمة الروحيّة التي سبّبتها كثرة المعاصي، ووسائلُ الإلهاء والتغفيل فأبعدت الناس عن هدي الله وذكره، وهوّنت عليهم ارتكاب أيّ محظور، وأنتجت قلّةَ الخوف من الله، فلا يفكّر أحدهم في عذاب الآخرة ولا عقاب الدنيا، ومن لم يكن له دين صحيحٌ يمنعه فلا عقلَ ينفعه ولا زجرَ يردعه. والفراغ القاتل والبطالة سوقٌ رائجة للمخدّرات والمسكرات، سيما عند الشباب، خاصةً عند مصاحبةِ أصدقاء السوء ورفاق الشرّ، يهوّنون عليه الأمر ويجرّئونه على المنكر، ويزيّن الشيطان له المتعةَ الموهومةَ والهروبَ من الواقع، إنّ هذا الهروب ليس إلا غيبوبةً يعقبُها صحوٌ أليم وتنقل ذويها إلى عالم التبلّد والبلاهة، ثمّ تأتي إفاقةٌ مضاعفة الحسرة. وتحمل وسائلُ الإعلام عبءًا كبيرًا من مسؤوليّة ذلك، حين تعرض البرامجُ والمسلسلاتُ شربَ الخمر وقوارير الخمر على أنّه أمرٌ طبيعيّ ومن خصائص المجتمعات الراقية، وتُقحم ذلك في الدعايات للهو والمتعة. وإذا سافر ضعيف الإيمان إلى بلاد الكفر والإباحيّة وقع في المحظور وأدمن عليها وعاد لبلده باحثًا عنها.
أيها المسلمون، إنّ أعداءكم لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]، قد اتَّخذوا المسكراتِ والمخدّرات سلاحًا فاتكًا للسيطرة والعدوان واستلاب العقول والأموال. إنّ بلادَ الإسلام تواجه هجومًا شرسًا من جهاتٍ مشبوهة بخططٍ وأهداف بعيدة المدى لتهريب المخدّرات وترويجها بين أبناء المسلمين؛ لتحطيم البلاد كلِّها اجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا وفي كلّ المجالات، حتى أضحت حرب المخدّرات أحدَ أنواع الحروب المعاصرة الخطيرة، والذي يقف في الميدان يدرك مدى ضراوةِ هذه الحرب. ومع ما سنّته البلادُ مشكورة من عقوباتٍ رادعةٍ فلا زال طوفان المخدّرات المدمّر تئنُّ منه خفايا البيوت وأروقةُ المحاكم وجدرانُ السجون؛ مما يُنبيك عن غَور الجرح وعمق المأساة.
وبعد هذا: أيُّها المسلمون، فإنّ الحديثَ عن تفشي المسكرات والمخدّرات ونِسَبها وآثارها وقصصها ومآسيها لهو حديث مؤلم، ولكن السكوت عنه لا يزيد الأمرَ إلا إيلامًا؛ لذا فلا بدّ من الوعي بحقائق الأمور وإدراك حجمِ الخطر، ثم التكاتُف والتآزر بين أفراد المجتمع ومؤسّساته للحدّ من هذا الوباء وصدّه قبل استفحال الداء. لا بدّ من تنمية الرقابةِ الذاتيّة بالإيمان والخوف من اللهِ في قلوبِ الناس عامّةً والناشئة والشّباب خاصّة، ولن يردع البشرَ شيءٌ كوازع الدِّيانة. لا بدّ من تكثيفِ التوعية بأضرار المسكرات والمخدّرات والتركيز على ذلك في المناهج الدراسية وفي وسائل الإعلام. تجب العناية بالشباب وملءُ فراغهم بما ينفعهم وينفع مجتمعهم. واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفةُ كلِّ مسلمٍ، ولو ائتمرنا بيننا وتناهينا ونصحنا وتناصحنا لما وجَدَ الشيطان سبيلاً إلى ضعيفٍ بيننا. لا بدّ أن يتكاتفَ أفراد المجتمع مع الجهاتِ المسؤولة على نبذِ المروّجين والتبليغ عنهم والحذر من التستّر عليهم أو التهاون معهم. أما المبتلى بالتعاطي فهو مريض بحاجةٍ إلى المساعدة، لا إلى مجرّد الشفقة والسكوت السلبيّ.
وهنا لا بدّ من الإشادة بما يبذله رجال الأمن وجهاتُ مكافحة المخدّرات ومن يقومون بالتوعيةِ بأضرار التدخين من جهود مشكورةٍ للحدّ منها ومتابعتها والتحذير والتوعية، وننتظر منهم ومن غيرهم المزيد، أعانهم الله وسدّدهم وأنجح مساعيَهم، وعافانا الله وإياكم والمسلمين من كلّ سوءٍ ومكروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة: 90-92].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
|