أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى.
أيها المؤمنون، ثبَتَ في صَحيح مسلمٍ عنِ النبيِّ فيما يَروِيه عن ربِّه جلَّ وعلا في الحديث القدسيِّ أنَّ الله جلَّ وعلا يقول: ((يا عِبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي، وجعلتُه بينَكم محرَّمًا فلا تَظَالموا)).
حديثٌ جَليل يتَوَجّه إلى البشَريّة حين يجورُ بها الطّريق، ويحذِّر الأفرادَ حين يُغرِيها الجشَعُ والطمَعُ العميق. تَوجيهٌ ربَّاني يحذِّر فيه الربّ جلَّ وعلا خلقَه من أن يتغَالبوا، ويأكلَ قويُّهم ضعيفَهم، ويعتَدي كبيرُهم على صغيرهم، ويحتقر ذكرهم أنثاهم، ويستغل غنيهم فقيرهم، ويسيء التجار والصناع لمن ولاهم الله أمرهم. توجيهٌ إِلَهيٌّ ينبِّه العقلَ أن يزلَّ به الهوَى فيَقَع في الظلم على الضّعَفَاء. وصيةٌ من البارِي جلّ وعلا يسوقها رسولُه المجتبَى ليتحاشَى الخلقُ كلُّهم الظلمَ والعدوانَ والطّغيان، ويتجنَّبوا ظلمَ العباد أيًا كانت صلتهم بهم، ويحرم التعدِّي على حقوقهم والتَّجنّي على مقدَّراتهم والاعتداء على أنفسِهم وأموالهم وأعراضِهم.
أحبتي في الله، إن من أبشع أنواع الظلم على الإطلاق ظلم الولد لوالديه، كيف لا وهما اللذان قرن الله تعالى برهم بعبادته في أكثر من آية كقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36]؟! وكيف يجرؤ أحد على ظلم من حمله ورباه وتعب من أجله؟! إن هذا لشيء عجاب، وما أكثر صورَ الظلم التي تقع من الأولاد لآبائهم، فهذا بخيل عليهما بماله، وذاك لا يحترم قول أبيه، وثالث يضيق بهما حينما يكبران ويضعفان.
هذا عجوز طاعن في السن يحتاج إلى أبنائه كي يقوموا بالنفقة عليه وعلى من بقي من أسرته، فيطلب من أبنائه أن يرسلوا له نفقة شهرية، فيأبون، وبعد مشاكل كثيرة افتعلها الأبناء حتى لا ينفقوا على أبيهم اضطر الأب للمحكمة، فقضى له القاضي بمرتب شهري من أبنائه، فيقول أحد الأبناء: والله، لو توقفت حياتك على أن أزيدك عما حكم لك القاضي لما أعطيتك. إنها قلة الدين، فيا لله كم من قلوب جاحدة لمن لا يستحق النكران!
وإذا ذكرنا ـ إخواني في الله ـ ظلم بعض الأبناء لآبائهم فإنا نذكر ظلم بعض الآباء لأبنائهم، فإن من الآباء من يستعمل مع ابنه أو بنته أنواعًا من القسوة التي تعدّ من الظلم، كأن يهمل تربيتهم وقلةِ الإنفاق عليهم وتركهم عالة على غيره وقلة متابعته لهم في مدارسهم، فتراهم يعيشون في فقر مع غناه، وفي يُتم مع وجوده، حتى إن بعض الآباء قد يكون سببًا في وقوع أبنائه في أنواع السرقات بسبب بخله عليهم، عن ابن عمر عن رسول الله قال: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود. ولعل من أفظع ما سمعت به في هذا أنّ زوجة الأب تضرِب بنتَ زوجها وهو يعلم، بل وصل بها أن تعاقبها عقابًا لا يعاقبه إلا من قست قلوبهم من الجبابرة، فصارت تستعمل معها كل صنوف العقاب حتى الحرق بالنار، فويل لهذه القلوب القاسية، ألا تخاف من الله تعالى أن يصبّ عليها العذاب صبًا في الدنيا والآخرة؟!
ولتحذر ـ أيها الأب ـ أن تعمل على حرمان ابنتك من الزواج الذي هو من أهم حقوقها، ولا تتّخِذ البنتَ المسكينة عاملة لديك تجلب لك الأموال من وظيفتها على حساب دينها وحيائها وشبابها، فإن ذلك من أعظم الظلم، فسهل لها الزواج، فإنه خير لك ولها، فهي لا تقل عن الرجل في احتياجها إلى الزواج.
عباد الله، ويجب على كل زوج أن يعلم حقوق زوجته ليؤدّيها كما أمر الله، فإن الخير في أداء حقوق الأهل وخاصة الزوجة، وينبغي على الزوج أن ينظر لزوجته على أنها شريكته في بناء الأسرة، وأنها رفيقة حياته، يأنس بها، ويسعد بسعادتها، ويشقى لما يصيبها، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
ومن العجيب أن ترى بعد هذا أزواجًا قلّ دينهم واضمحلت مروءتهم ونقصت شهامتهم، فصاروا يعاملون زوجاتهم على أنهنّ من متاع البيت الذي يداس أو أنهن خدم في البيوت، ولقد اشتكت زوجة من زوجها وسوء تعامله معها وضربه لها حتى إنها تشتكي من كثرة ضربه الذي ترك أثرًا في صفحة عنقها، وما علم الغبي أنه ليس أكثر رجولة ولا قوامة من رسول الله ، فعن إياس بن أبي ذباب قال: قال رسول الله : ((لا تضربوا إماء الله))، قال: فذئر ـ أي: نشَز ـ النساء وساءت أخلاقهنّ على أزواجهنّ، فقال عمر بن الخطاب: ذئر النساء وساءت أخلاقهن على أزواجهن منذ نهيتَ عن ضربهن، فقال النبي : ((فاضربوا))، فضرب الناس نساءهم تلك الليلة، فأتى نساءٌ كثير يشتكين الضربَ، فقال النبي حين أصبح: ((لقد طاف بآل محمّد الليلةَ سبعون امرأة كلّهنّ يشتكين الضربَ، وايم الله لا تجدون أولئك خياركم)) رواه النسائي وصحّحه ابن حبان، وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: ما ضَرَبَ رسول اللَّهِ شيئا قَطُّ بيده، ولا امْرَأَةً ولا خَادِمًا، إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وما نِيلَ منه شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ من صَاحِبِهِ، إلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ من مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل. رواه مسلم.
أيها المسلمون، ومن أنواع الظلم ظلم العمّال وعدم إعطائهم حقوقهم في وقتها والمماطلة في ذلك والتأخير، فعن أبي هريرة مرفوعا: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)). فحقوقهم واجبة في وقتها، وتحرم المماطلة بها وتأخيرها وظلمهم واستغلالهم بغير حق. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن النبي قال: ((إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)).
إن العامل يأتي من بلاد بعيدة وفقيرة، وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق، عياذًا بالله تعالى. فاتق الله تعالى فيمن تحت كفالتك من العمالة، واعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك.
اللهم ارزقنا العدل مع أنفسنا والناس أجمعين، اللهم إنا نعوذ من الظلم وأهله يا رب العالمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه كان غفارا.
|