أما بعد: فمن حكمة الله عز وجل أن جعل الناس درجات متفاوتين في الأرزاق والأعمال وغيرها في الدنيا وفي الآخرة، ومن ذلك التفاوت في الأرزاق ليخدم بعضهم بعضًا وإن لم يشعروا بهذا، ومن أجل الامتحان والابتلاء والاختبار لكيلا يطغى صاحب المال وليستعف المحروم، ولولا ذلك لما نجح أحد في الامتحان الذي فيه ومعه وبعده رفع الدرجات أو هبوط الدركات، قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 165].
ولكي يتربى المسلم على الطاعات وفعل الخيرات فتح الله له أبوابًا كثيرة من الخير وإن كان فقيرًا، ويتساوى فيها الفقير مع الغني، وقد يسبق الفقيرُ الغنيَّ وينافسه ويكون أعلى منه درجة في كل أبواب الخير والعمل الصالح إلا عندما يكون مُعْدَمًا لا مال له وسبقه الغني بإنفاق المال سواء كان فرضًا أو نفلاً زكاة أو صدقة عامة إلى جانب أعماله الصالحة، عندها يدرك المسلمُ الحكمةَ من وجود المال في يده أو عدمه.
والإسلام لا يحب لأهله الذلة والخضوع والمسكنة لغير الله والهوان ومسألة الناس، وإنما حَثَّ على التكسب والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال، وجَعَلَ السعي على الأهل والأولاد والعيال من أفضل الأعمال التي يُثاب عليها المسلم، وتعتبر عبادة متى نوى بذلك التقرب إلى الله عز وجل ممتثلاً أمر الله جل جلاله في طلب الحلال والإنفاق منه في الحلال أيضًا وأداء ما أوجب الله فيه من حق لأهله المستحقين له، قال تعالى: هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ [الملك: 15]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]. وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، وقال تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـلاً طَيّبًا وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114]. وقال مرغبًا في النفقة على أهل الشخص ومن يعول: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم.
ووردت أحاديث كثيرة في الترهيب من المسألة وتحريمها مع الغنى، كما جاءت بالترغيب في التعفف والقناعة والأكل من كسب اليد؛ ليرتفع المسلم عن كل ما يشِينُهُ أو يَحُطُّ من كرامته، وليبقى عزيزًا رافع الرأس، ولكن مع تغافل الناس وغفلتهم وقلة عنايتهم بإسلامهم وعدم معرفتهم لأحكام دينهم أو لتهاونهم في التطبيق يكون الإفراط أو التفريط، وكلا الأمرين مذمومٌ سلوكُ طريقِهِما وغير محمود، فلا أصحاب المال يؤدون ما أوجب الله عليهم في الوجوه التي أُمروا بأدائها فيها أَيْ: في الأصناف الثمانية، لم يُؤَدُّوا زكاة أموالهم في مصارفها الشرعية، ولم يتصدقوا من فضول أموالهم، وإلا لما بقي سائل يسأل أو فقير في مجتمعات المسلمين لو أديت الزكاة كما يجب، ولا الفقير أو صاحب الحاجة يعرف المسألة الشرعية ويكفّ عما زاد عن ذلك.
وأَخُصُّ بالذكر أولئك الذين اتخذوا المسألة مهنة شَبُّوا وشابوا عليها ورَبَّوْا أولادَهم ومن تحت أيديهم على ذلك حتى صارت تلك عادتهم التي لا يستطيعون الخلاص منها، وأذكر ما تيسر من أحاديث رسول الله حول ذلك، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم)) رواه البخاري ومسلم والنسائي، مزعة أي: قطعة. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنما المسائل كُدُوحٌ يُكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بُدّا)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال رسول الله : ((من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة من حيث لا يحتسب)) رواه البيهقي، وقال : ((من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شَيْنًا في وجهه يوم القيامة)) رواه أحمد والبزار والطبراني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس تكثّرًا فإنما يسأل جمرًا، فَلْيَسْتقِلَّ أو لِيَسْتكثرْ)) رواه مسلم وابن ماجة، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس عن ظَهْر غِنَى استكثر بها من رَضْف جهنم))، قالوا: وما ظهر غنى؟ قال: ((عشاء ليلة)) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند والطبراني في الأوسط وإسناده جيد، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس لِيُثْرِيَ مالَه فإنما هي رَضْفٌ من النار مُلْهَبَةٌ، فمن شاء فَلْيُقِلَّ، ومن شاء فَلْيُكْثِرْ)) رواه ابن حبان في صحيحه، والرضف: الحجارة المُحْمَاة.
وقد أثَّرَتْ تلك التربية النبوية في أصحاب رسول الله حتى بلغ بهم الأمر إلى أبعد من ذلك مع الحاجة إلى المال والنفقة في ضروريات الحياة أو المسألة التي نراها عادية لدينا وهي كذلك. عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فَعَلامَ نبايعك؟ قال: ((أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا))، وأَسَرَّ كلمة خفية: ((ولا تسألوا الناس))، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. رواه مسلم والترمذي والنسائي.
وفي إحدى الروايات عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي قال: ((ستة أيام ثم اعقل ـ يا أبا ذَرٍّ ـ ما يُقال لك بَعْدُ))، فلما كان اليوم السابع قال: ((أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك، ولا تقبضنّ أمانة)) رواه أحمد ورواته ثقات، ((لا تقبضن أمانة)) أي: لا تحجبها ولا تمنعها صاحبها.
ووصل الأمر بأبي بكر رضي الله عنه إلى أنه ربما يسقط خطام الناقة من يده فيضرب ذراع الناقة فيُنِيخُهَا فيأخذه لئلا يطلب من أحدٍ أن يناوله إياه، فيقولون له: أفلا أمرتنا فَنُنَاوِلَكَهُ؟! قال: إن حِبِّي أمرني أن لاَّ أسال الناس شيئًا.
وهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه يروي ما جرى له فيقول: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، أُشهدكم على حكيم أني أَعْرِضُ عليه حقّه الذي قسم الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، ولم يَرْزَأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد النبي حتى توفي رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي رحمهم الله. يرزأ أي: يأخذ.
وعن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه أنه قال: تحمّلت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها))، ثم قال: ((يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حَمَالَةً فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: سدادًا من عيش ـ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الْحِجَى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: سدادًا من عيش ـ، فما سواهن من المسألة ـ يا قبيصة ـ سُحْتٌ يأكلها صاحبُها سحتًا)) رواه مسلم وأبو داود والنسائي، والحمالة: الدية يتحملها قومٌ عن قومٍ، وقيل: هي ما يتحمله المصلح بين فئتين في ماله ليرتفع بينهم القتال والفتنة، والجائحة: الآفة تصيب الإنسان في ماله، والفاقة: الفقر والحاجة، والسِّداد بكسر السين: ما يسدّ الحاجة ويكفيه، والقِوام بكسر القاف وفتحها: ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره، والحِجَى بكسر الحاء: هو العقل.
|