أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى ونشكره على نعمه وآلائه التي لا تعدُّ ولا تحصى، وقد أغنانا سبحانه بالحلال عن الحرام، وأباح لنا من الطيبات ما تقوم به مصالحنا الدينية والبدنية، وحرّم علينا الخبائث لما فيها من الضرر علينا، حيث التغذي بالطيبات له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه لأنها تغذّيه تغذية طيبة، أما التغذي بالخبائث فأثره خبيث في الأبدان والسلوك لأنها تغذيه تغذية خبيثة.
ألا وإن من الخبائث التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين اليوم الدخان الذي انتشر شربه واستعماله بين الصغار والكبار وكذلك النساء، وصار متعاطوه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء، حيث يملأ أحدهم فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم لأنه يتضايق منه ولا يستطيع استنشاقه كاملاً فيخرجه تخلصًا منه وتضايقًا ولو آذى به الآخرين، يخرجه من فمه المشبّه بمدخنة الأفران والمحارق، فيخيّم على الحاضرين سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوّث بالريق القذر والرائحة الكريهة المنتنة، ومصدر ذلك كله فَمُ المُدَخِّنِ البذيء الذي لا يراعي لِمُجالِسِيهِ حرمةً، ولا يفكِّر في وَخِيمِ فعله، ولو أن إنسانًا تنفّس في وجه المدخن أو بَصَقَ أوِ امْتَخَطَ أمامه فكيف يكون موقفه واستنكاره وتألّمه لهذا الفعل؟! علمًا بأنه يفعل بمن يجلس حوله في غرفته أو مكتبه أو سيارته أو في بيته بين أولاده وأهله أو مع جلسائه في أي مكان يفعل أكثر من هذا، ولم يستحِ، ولم يكن له من الشهامة والرجولة ما يردعه عن فعله هذا. أقول: الشهامة والرجولة لا الوازع الديني؛ لأنه لو كان لديه ذلك الوازع لانتهى وأقلع وخاف من رب العالمين ولما بقي عليه لحظة واحدة؛ لأن الخوف من الله ومن أليم عقابه يجعل المسلم حَيَّ الضمير يقظًا متنبهًا، متى أراد الشيطان الإيقاع به انتبه واستغفر ربه وأناب إليه ورجع، فالذي يشرب الدخان وينفثه في وجوه الحاضرين قد نُزع منه الحياء وصار صفيقًا متبلّد الشعور، وقد قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
أيها المسلمون، كم تعالت الأصوات في إنكار شرب الدخان! وكم صدر من النشرات والتحذيرات الطبية من أضراره المتعددة! وكم صدر من الفتاوى الشرعية بتحريمه! وكم أُلِّف من الكتب والرسائل في بيان مفاسده! وكم جنى المدخنون من مضارّ في أبدانهم وأرواحهم وعلى نسلهم ونسائهم! وكم آذوا من جليس لهم في المجتمع! وكم أفنوا من دنانير ودراهم! وكم أضاعوا من أوقاتهم وأهدروها ومعها أعمارهم وأجسادهم حيث أفنوها فيما يحرقها ويتلفها! ومع هذا وذاك كلّه فكثير من شاربيه لا يُجيبون داعيا، ولا يُصْغُون لناصح، ولا يحترمون أحدًا، ولا يترفعون بأنفسهم عن تلك العادة السيئة؛ لأن الدخان قد أَسَرَهُمْ وأحكم أسرهم وقيّدهم فلا يستطيعون منه خلاصًا إلا بالإيمان بالله ورسوله والتوبة الصادقة إلى الله عز وجل، ولو كان شارب الدخان صادق العزيمة شهمًا متوكلاً على الله غير فاقد لذلك لاستطاع أن ينفكّ من هذا الأَسْر وينطلق من تلك القيود بإذن الله تعالى.
إن الكفار يدفعون هذا الدخان إلى مجتمعات المسلمين ويروّجونه في أسواقهم لعلمهم أنه من الأسلحة القاتلة التي تهدم الأجسام وتقضي على الصحة وتجني الشيء الكثير على أخلاق الشباب والرجال والنساء والأطفال، وبالتالي يستنزفون ثروات البلاد وخيراتها ويبنون حياتهم الاقتصادية الدنيوية ويتقدمون في مخترعاتهم العلمية بما يدفعه أولئك السّذّج من الأموال الطائلة مقابل الحصول على الدخان ومشتقاته الذي أهلكوا به أنفسهم، وبئس ما اشتروا لأنفسهم! وتُسْتَنْزَفُ الأموالُ أيضًا من المدخنين أنفسهم ومن الأفراد الآخرين عمومًا ومن الدول كذلك من حيث يشعرون أو لا يشعرون، حيث إنفاق الأموال الهائلة لعلاج المتضررين من التدخين وجلب الأدوية لهم والأجهزة الخاصة بالعلاج من بلاد الكفر، فهم المستفيدون ماديًا ابتداءً وانتهاءً، والمسلمون غافلون إلا من شاء الله، فهلاَّ استيقظنا وانتبهنا وعرفنا مقاصد أعداء الإسلام والمسلمين في هذا وغيره من الأمور الأخرى؟!
إن المجتمعات الغربية الكافرة تُخَصِّصُ سياراتٍ ومراكبَ وأماكنَ خاصةً لا يركبها ولا يدخلها أو يجلس فيها المدخنون حفاظا على صحة غير المدخنين وعدم الإساءة إليهم وأذيتهم بالروائح المنتنة الصادرة من أفواههم وسجائرهم، ومَنْعُ التدخين في الأماكن العامة مُطَبَّقٌ في عدد من الدول الغربية والشرقية، والمنع مع الغرامة الصارمة على من يدخن في الأماكن العامة والتجمعات السكانية صغيرةً كانت أو كبيرةً مُطَبَّقٌ في ثلاث دول غربية، فهلا طبق المسلمون ذلك في بلادهم واستفادوا من تجارب غيرهم ما دام المدخنون مصرّين على فعلهم؟! وهلاَّ قاموا بدور محمود يعود على الفرد والجماعة بخير؟! إن الأمل كبير في الأوبة والرجعة الصادقة، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 17].
إنَّ شُرْبَ الدخان ضارٌّ للبدن والدين والمال والمجتمع، ومُذْهبٌ للشرف والمروءة والكرامة والشهامة، ونوع واحد من الأضرار كافٍ لتحريمه والابتعاد عنه، فكيف إذا اجتمعت فيه تلك المضار المتعددة والتي منها ما يلي على سبيل الاختصار:
1- ضرره على البدن: يضعفه بوجه عام، ويحدث تصلبًا وتشنّجًا وانسدادًا في الشرايين الدموية، ومسبّب للسل والسرطان والسعال الديكي والتهابات الفم واللثة والبلعوم والأنف والحنجرة ومداخل الطعام والشراب وتقرحاتها وحرقها حتى يجعلها كالفحم المحترق المنهار، ويسوّد الأسنان ويسبّب بِلاءَها وتآكلها بالسوس بسرعة، والتهاب الحبال الصوتية والتمدّد والانتفاخ الرئوي وسرطان الرئة والغثيان، مع قلة الشهية للطعام وعسر الهضم وقرحة المعدة والإمساك، وما يصاحبه من صداع وآلام مختلفة والتهابات مزمنة تؤدي إلى اضطرابات عصبية وفتور واسترخاء وسرعة تعب وإجهاد عند بذل أي جُهد عضلي، إلى جانب قلة النوم والنسيان وارتعاش الأطراف، وإصابة العينين والجهاز البصري بعدم صفاء الرؤية والشعور بالغشاوة وضعف الإبصار.
وقد أعلنت هيئة الصحة العالمية قبل ثلاثين عامًا من الآن أن التدخين أشد خطرًا على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة، كما ثبت طبيًا أن التدخين يسبب الإجهاض والعقم عند النساء ويضعف القدرة الجنسية عند الرجال، كما جاء في تقرير الصحة العالمية أن التوقف عن التدخين سيؤدي إلى تَحَسُّن الصحة بما لا تستطيعه جميع الوسائل الطبية مجتمعة، فهل أدرك المدخنون ضرر التدخين عليهم في أبدانهم؟!
إن هذا وغيره موجود ضمن كتب ورسائل ونشرات عديدة لمن أراد البحث والزيادة، وخير دليل قائم على المدخّن هو نفسه وحاله وما هو فيه وعليه خاصة المدمن عليه منذ فترة وصاحب الخدمة الطويلة في ذلك، حيث لا يحتاج إلى إثبات ودلائل من خارج نفسه، وأكبر دليل على الضرر الصحي هو مطالبة بعض الجهات الصحية لشركات عالمية مسؤولة عن الإنتاج والتوزيع والدعاية والترويج للدخان مطالبتها بمليارات الريالات مقابل تعويضها عن الخسائر المادية جراء معالجتها وإنفاقها الأموال الطائلة لعلاج المدخنين، وهذه المطالبة المادية التي تحملتها الجهات الصحية دليل قاطع على الأضرار الصحية التي لحقت بالمدخنين، إلى جانب ما أهدره المدخنون للحصول على السجائر من عشرات المليارات من أموالهم الخاصة في السنوات الماضية، إلى جانب ملايين من ساعات العمل التي ضاعت نتيجة مراجعة المستشفيات وتلقي العلاج بالتنويم فيها لإجراء العمليات الناتجة عما خلَّفه الدخان أو لأي عارض مرضي، فهذه الأضرار المادية التي لحقت بالأطراف المذكورة كافية وحدها لتحريم الدخان، وإذا أُضيفت إليها الأضرار التالية كانت أشد وضوحًا لمن كان لديه أدنى شكِّ.
2- ضرره على الدين: يجعل العبادات والقيام بالطاعات ثقيلة على متعاطيه وخاصة الصيام والصلاة والجلوس في المساجد وحضور مجالس العلم؛ لأنه لا يستطيع الصبر عنه وخاصة المدمنين، وما كرّه المسلم في عمل الخير فإنه شرّ لا شك في ذلك، وهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، ومتى سرى تعاطيه في الشباب سقطوا بالمرة وكان الخطوة الأولى للدخول في مداخل قبيحة وتدهور الأخلاق وتحطم المعنويات والنشأة السيئة مع جلساء السوء، فيصبح كل قرين بالمقارن يقتدي.
3- ضرره على المال: الذي يتعاطاه يعرف كم يضيّع فيه كل يوم من الريالات، وقد يكون فقيرًا لا يملك قوت يومه، ومع هذا يقدّم شراء الدخان على شراء غيره من الضروريات لأهله ولو تحمل الديون الكثيرة، فيحرم نفسه وربما يحرم أولاده من التمتع بالطيبات، ويستبدل ذلك بالتدخين الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وربما يسأل هذا وذاك سجارة وسجارتين ويهرق ماء وجهه مقابل الحصول على سجارة، وربما يُمنع من ذلك ولا يُعطى، ومع هذا فلا يخجل ولا يستحيي وهذا هو الواقع، ولو ألجأته الضرورة إلى سؤال وطَلَبِ شيءٍ من الطيبات لما أقدم على ذلك، هذا حال بعض الفقراء المتعففين عن السؤال، أما الغني فهو يبذل المال في شرائه غير مبالٍ بما يخرج ويضيع في سبيل الشيطان، وهو يعلم أن المبذرين هم إخوان الشياطين، وأنه سوف يُسأل عن كل درهم ودينار: فِيمَ أنفقه؟ ويعلم أنه لو وقف عليه فقير كل يوم لمدة شهر يطلبه ثمن فطور لما أعطاه، ولو أعطاه يومًا أو يومين لمنعه ونهره وطرده وأَرْغَى وأزبد وكشّر في وجهه بقية الشهر، وبهذا يتبين أن الشيطان لم يمنعه في يوم من الأيام عن شراء الدخان ولم يتركه يفكر في ذلك؛ لأنه إنفاق في سبيل الشيطان، فهو يسهّل عليه طريقه، أما الإنفاق في سبيل الخير وطرقه لكسب الحسنات فإن الشيطان يصعِّبه ويوسوس لصاحبه بوساوس كثيرة تمنعه من كسبها، ويكفي هذا البيان حال الإنفاق هل هو في الحلال والطيبات أم في الحرام والخبائث؟ وقد ذكرت سابقًا الأضرار المالية على الجهات الصحية والحكومية أو الأهلية أو الشركات والمؤسسات التي يعمل فيها المدخنون إلى جانب ما يلحق بهم أنفسهم.
4- ضرر شرب الدخان على المجتمع: إن شاربه يسيء إلى مجتمعه وإلى كل من يجالسه ويصاحبه، ابتداءً من زوجته وأولاده حيث يكتم أنفاسهم ويخنقهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجوّ من حولهم، وثبت طبيًا بأن الجالسين الذين يستنشقون الدخان أكثر تضررًا من المدخنين أنفسهم، ومما صدر في آخر إحصائية حول الخسارة البشرية في المجتمعات هو موت أكثر من عشرة ملايين شخص في السنة الواحدة في العالم من المدخنين منهم سبعة ملايين من البلدان النامية كما يعبرون، بسبب الأمراض الناتجة عن التدخين، أما بين عامة الناس المجالسين فإن المتضررين من ذلك على مدى الأيام سوف يجنون عواقبه وإن لم تصدر إحصائيات عن ذلك.
ولقد امتدّ أذى التدخين فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وحَالَ ركوبهم السيارات والطائرات، ولا حياء ولا خجل ولا رادع يردع متعاطيه إلا من شاء الله، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله قوله: ((لا ضرر ولا ضرار))، ((من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)).
وكذلك يلحق الأذى الملائكة الكرام الملازمين له، وإذا كان الرسول نهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا بِأَن لاَّ يقربَ المسجد ويعتزل مجتمع المسلمين مع وجوب صلاة الجماعة على الرجال لئلا يتأذوا من رائحته حتى تزول مع أنها من الطيبات فكيف بالخبيث الذي هو الدخان والجراك وغيرها من الخبائث؟! روى الإمام مسلم رحمه الله أن رسول الله قال: ((من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
أيها المسلمون، إذا كان شرب الدخان من الرجال منقصة لهم بين الرجال ويهدم مروءتهم وشهامتهم ويهدر كرامتهم ويحطّ من قدرهم فإنه من النساء أعظم، وما نسمع عنه من أن بعض نساء المسلمين وصل بِهِنَّ الحالُ من غير حياء ولا خجل بل وبكل وقاحة بِأَنْ يتصدرن مجالس النساء ومحافلهن واضعات السجائر في أفواههن وليات الشيشة والجراك ليخرج منهن كدخان المصانع والأفران، وهذا الانحطاط الخلقي والدناءة التي يأنفها كل غيور وصلت ببعض النساء إلى اصطحاب الشيش إلى المتنزهات والشواطئ ليمارسن المناظر المخزية أمام أعين الناس عامة، فيا لها من مناظر مخزية وحالات مستقذرة يندى لها الجبين! وذلك هو طيبهن وعطرهن الذي يستعملنه لأزواجهن الذين رضوا بفعلهن القبيح.
قال تعالى عن رسولنا محمد : وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195].
|