الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان لطيفا خبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة وبشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وآمنوا برسوله، فالإيمان أن يؤمن العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة:285].
ومن الإيمان أن تؤمنوا بقضاء الله وقدره، فآمنوا بأن الله بكل شيء عليم، عَلِمَ ما كان في الماضي وما سيكون في المستقبل علم ذلك جملة وتفصيلا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ق:16].
آمنوا بكمال علم الله وسعة علمه، وآمنوا بكمال حفظه وتمام رعايته وأنه كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ما سيكون إلى يوم القيامة فإن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب، قال: أكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70]. ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
أيها المسلمون: آمنوا بمشيئة الله في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير [المائدة:120].
وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته، فبيده الملك وبيده مقاليد السماوات والأرض ما من شيء يحدث من رخاء وشدة وخوف وأمن وصحة ومرض وقلة وكثرة إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
وآمنوا أيها المسلمون بعموم خلق الله لكل ما في السماوات والأرض: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [الزمر:62]. والله خلقكم وما تعملون فإن الله خالق السماوات والأرض ومدبرهما وخالق الإنسان ومدبره، فللإنسان عزيمة وإرادة وله قدرة وعمل، والذي أودع فيه تلك العزيمة وخلق فيه تلك القدرة هو الله عز وجل، لو شاء لسلبه الفكر فضاعت إرادته ولو شاء لسلبه القدرة فما استطاع العمل.
أيها المسلمون: إن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به، لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو التهاون بما أوجب الله.
وجه ذلك أن الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية ولا تَرْكِ واجب، وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه.
إن الاحتجاج بالقدر على المعاصي أو ترك الواجبات حجة داحضة باطلة أبطلها الله في كتابه، ويبطلها العقل والواقع. أبطلها الله في كتابه فقال تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو كان القدر حجة لم ترتفع بإرسال الرسل، لأن القدر ثابت مع إرسال الرسل. وقال تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون .
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة صحيحة وعذرا مستقيما لما أذاق الله المحتجين به على شركهم بأسه لأن الله لا يظلم أحدا.
إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها العقل، وذلك لأن المحتج بالقدر ليس عالما بالقدر فيبني عمله عليه، فكيف يحتج بما ليس له تأثير في فعله، إذ لا تأثير للشيء في فعل الفاعل حتى يكون عالما بهذا المؤثر.
ولو أن أحدا اعتدى على شخص بأخذ ماله أو قتله وقال هذا شيء بقضاء الله وقدره لم يقبل المعتدي عليه ولا الناس عذره، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر من غيره إذا اعتدي عليه ويحتج به لنفسه إذا اعتدى على حق الله.
إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها الواقع فإن كل شخص يرغب الوظيفة إذا سمع بمسابقة عليها جائزة سعى في ذلك حتى يصل إلى الوظيفة، وإن وصوله إلى الوظيفة حاصل بقضاء الله وقدره بلا شك، ومع ذلك فقد سعى للوصول إليها بما يستطيع من الأسباب، ولم يترك العمل للوصول إليها، فلماذا يترك ما أوجب الله عليه وهو قادر على فعله، عالم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر لماذا لم يسع للوصول إلى الجنة كما سعى للوصول إلى الوظيفة وإلى المعيشة.
وإننا في أيام الامتحان لنرى الطلاب الذين يريدون النجاح يسهرون الليل ويتعبون النهار في المراجعة ليصلوا إلى النجاح، وما أحد منهم يريد النجاح فيترك المراجعة احتجاجا بالقضاء والقدر، فكيف يصح أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه وهو يعلم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر.
وإننا لنرى الشخص يحجب عن نوع معين من الطعام يضره أكله ونفسه تشتهيه فيتركه خوفا من مضرته ولا يمكن أن يقدم عليه ويحتج بالقضاء والقدر، فلماذا يقدم على المعصية وهي تضره ثم يحتج بالقضاء والقدر؟
إن الإنسان العاقل كلما تأمل الواقع وقاس الأمور بعقله ونظر في كتاب الله وسنة رسوله علم علما يقينا أن لا حجة للإنسان بقضاء الله وقدره على ما يفعله باختياره، وأن الاحتجاج بذلك على ترك الواجب أو على فعل المحرم حجة داحضة باطلة لا يفعلها إلا الباطلون المكابرون.
أما الأمور غير الاختيارية كالموت والمرض وسقوط شيء على الإنسان حتى يقتله أو نحو ذلك فهذا حجة للإنسان، ولذلك لا يؤاخذ الله المجنون على ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات، ولا يؤاخذ الله العبد على ما فعله من محرم جاهلا به أو ناسيا لأنه ليس مختارا لفعله لو علم بتحريمه.
فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا بقضاء الله وقدره واجعلوه وسيلة لكم إلى الاستعانة بالله وطلب الهداية منه لأن بيده أزّمة الأمور ومقاليدها فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي أفلا ندع العمل ونتكل على القضاء قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [الليل:5-10])) [والحديث رواه البخاري].
فاتقوا الله عباد الله ولا تجعلوا قدر الله حجة لكم على شريعته ومخالفته، فتضلوا ضلالا بعيدا وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . |