أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واسلكوا طريق الصادقين، واتبعوا سبيل المتّقين، كونوا على وجل من هجوم الأجل، ولا تُطغِكم الدنيا ولا يلهكم الأمل. الأيام تمرّ مرّ السحاب، وأعمارنا آخذة في الذهاب، وأعمالنا محفوظة في كتاب، والموعد يوم الحساب. كيف تأنس ـ أيها الإنسان ـ بالدنيا وأنت مفارِقُها، وكيف تأمَن النارَ وأنت وارِدُها، كيف يلهو من يقودُه عمره إلى حتفه، وكيف يغفَل من يسير برجليه إلى قبره، صحَّتُك ـ أيها الإنسان ـ تسوقك إلى سقَمِك، وحياتك تقودك إلى موتك، فالجدَّ الجدَّ ـ رحمكم الله ـ قبلَ حلولِ المنَايا، والتوبةَ التوبةَ مِن الذنوب والخطَايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
أيها الإخوة المؤمنون، من أراد منكم موعظة فالموعظة ما تبصرون لا ما ترون، ومن أراد تذكرةً فالذكرى ما تَعون لا ما تسمعون، الآيات حولكم كثيرة، والبراهين بينكم مستنيرة، فاحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ.
لقد قام فينا واعظٌ منذ أيام بخطبة بليغة وموعظة عظيمة، سمعها الصمُّ، ورآها العميُ، خطبةٍ حضرها المصلّون وغيرُ المصلّين، لم يحتج فيها هذا الخطيب إلى منبر يرتقيه ولا عصا يتوكّأ عليها، يخطب كلَّ ساعة من غير ملل، بل يعظ كلَّ لحظة من غير كلل، أتدرون من هذا الخطيب يا عباد الله، إنه حرّ الصيف.
روى الإمام مالك والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحرِّ من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنَفَسين: نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، فما وَجَدْتُمْ من بَرْدٍ أو زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وما وَجَدْتُمْ من حَرٍّ أو حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ)).
أيها الإخوة الأحبة في الله، إن من أعجب العجب أن يجتهد الناس في التخفيف من حرّ الدنيا الفانية ويبذلون في ذلك أموالهم وأوقاتهم، ولا يجتهدون في الوقاية من حر الآخرة الباقية أبدَ الآبدين إلا من رحم الله تعالى. فيا خيبة من عمَرَ دنياه وخرَب آخرتَه، ويا خسارةَ من عمل لظلِّ الدنيا ونعيمها وأهمل ظلّ الآخرة ونعيمَها.
أيها الأحبة في الله، إنّ حرّ الدنيا يذكِّر المؤمنين الصادقين المتّقين بحرّ الآخرة، وإن حرَّ الآخرة شديد، قال الله تعالى: وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقِد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نارِ جهنّم))، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضِّلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلّهن مثل حرِّها))؛ ولذا كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتّعظون بما في الدنيا من الحرّ، صَبَّ بعضُ الصّالحين على رأسِه ماءً فوَجَدَه شَديدَ الحرِّ فبَكى وقال: ذكَرتُ قولَه جلّ وعلا عن عذاب أهل النار: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ.
عباد الله، إنّ هذه الشمسَ التي نفرّ منها وهي تبعُد عنّا ملايين الأميال ستدنو من رؤوسنا يوم القيامة وتكون منا على قدر مِيل واحد، فكيف بنا يومئذ ولا مهربَ ولا مفرّ؟! روى الإمام مسلم عن رسول الله أنه قال: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فمِه.
أيها المسلمون، لئن كنا نتَّقي حرَّ الدّنيا بأجهزةِ التكييف والماء البارد والسفر إلى المنتجعات والمصائف، وكل هذه نعمٌ من الله تعالى تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتدبّرنا كيف نتقي حرَّ الآخرة؟! ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة؟! هل تفكّرنا كيف ندفع لفْحَ جهنّم وسمومَها عن وجوهنا وأجسادنا الضعيفة؟!
فحقٌ على كلّ عاقل وهو يتقي حرّ الدنيا أن يسأل نفسه: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها من الواقيات؟ هل سألت ـ أخي المصلي ـ عن الأعمال الصالحة التي تقيك من حرّ شمس يوم القيامة وتحفظك في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
عباد الله، اعلموا أنّ الواقي الأساس والحافظ الرئيس من حرّ الآخرة وعذاب النار هو تحقيق التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك، فلا نجاة يوم القيامة إلا لمن أخلص دينه لله، فلا ذبح لغير الله، ولا توكّل على غير الله، ولا استغاثة بغير الله، ولا خوف ولا رجاء ولا ذلّ ولا خضوع إلا لله وحده، ولا تصديق لكاهن ولا ساحر ولا مشعوذ، ولا طواف بقبر، ولا تعليق لتمائم وطلاسم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، وقال النبي : ((قال الله تعالى: يا ابن آدَمَ، إِنَّكَ لو أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرض خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شيئا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
أيها المسلمون، الواقي الثاني من حرّ الآخرة وعذاب النار هو الإكثار من نوافل الطاعات، ومن ذلك صوم التطوّع، يقول : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا)). فالصيام ومكابدة الجوع والعطش في الأيام الطويلة الشديدة الحرارة هو دأب الصالحين وسنة السابقين، يقول أبو الدرداء : (صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور). فلنغتنم ـ أيها المؤمنون ـ أيامنا القليلة بالطاعات، ولنستزِد فيها من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقَّة، ويوم القيامة يرى كلّ إنسان منّا ما قدّم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
أيها المسلمون، الواقي الثالث من شمس الآخرة وحرّ جهنّم صنائع المعروف والإحسان إلى الناس، وذلك كالصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد قال رسول الله : ((الرجل في ظلِّ صدقته حتى يُقْضَى بين الناس))، فَحَرِيٌّ بكلّ مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظلّ بها في يومٍ شديد حرُّه عظيمٍ كرُبه.
ومن الإحسان إلى الناس العفو عن الدَّين أو العفو عن بعضه وكذا الصبر على المدين المعسِر، قال رسول الله : ((من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه))، وقال: ((إن أوّلَ من يستظلُّ في ظلّ الله يوم القيامة لرَجُلٌ أنظر معسرًا أو تصدَّق عنه)).
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على هذه الخلال العظيمة والأعمال الجليلة التي تنجيكم من حرّ يوم القيامة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|