أمّا بعد: فيَا أيّها المسلِمون، أوصيكم ونَفسِي بتقوَى الله جلّ وعلا، فيا سَعادةَ مَن اتَّقاه، ويَا فوزَ من أطاعَ ربَّه ومَولاه.
مَعاشرَ المسلمين، في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمان مدَّكر، في تلوُّن الزمان من شتاءٍ وصَيف ما يبهر المتعقّلين ويُنبِّه المتذكّرين ويجذِب أفئدةَ الصّادقين إلى الدّلالات الواضِحَة والبراهين البيِّنَة على عَظَمَة الخالق وبديعِ الرّازق وعلى وحدانيَّتِه وقدرته سبحانه، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
إخوةَ الإيمان، في تقلُّبِ الزَّمان مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِن حال إلى حالٍ ما يجعل ذوِي البصائر النيِّرَة والعقول النافذة في نَظَر وتفكُّر واعتبارٍ وتدبُّر في عظمةِ الباري وسَعَة سُلطانه ونُفوذِ مَشيئَتِه وعمومِ عِلمه وقدرته وشمول مُلكِه، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]. في هَذا التقلُّبِ وذلك التحوُّل بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُنا إلى شُكر الله جلّ وعلا على آلائِه وحَمدِه على نعمائه، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
إِخوةَ الإسلام، في زَمَن الحَرِّ يتذكَّر المؤمِن شِدَّةَ حرِّ النّار غيرِ المتَناهي أبَدَ الآبدين ودَهرَ الدّاهرين، فيُقبِل حينئذٍ بكلِّيتِه على العزيز الغفَّار ويَفِرّ من سَخَط الجبَّار، وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81]. المؤمِنونَ الموقِنون بوَعدِ الله ووعيدِه خَائفون وَجِلون من عذابِ السَّموم، عامِلون مسارِعون بما يقرِّبهم للربِّ الرحيم، عاملون بطاعته تارِكون معصيَتَه، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25-28].
عِبادَ الله، يقول بعض المحقِّقين: دارُ الآخرة إمّا دار نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دار عذابٍ مَحضٍ لا يشوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار.
وإنَّ ممّا يُذكّر بالنّار المعَدَّة لمن أشرك بالله جلّ وعلا وكفَر ولمن عصَى رُسُلَه وتجبَّر ما جَعَله الله في هذه الدّارِ من شدّةِ الحرّ وشِدّة البرد، فحرُّ الدنيا يذكِّر بحَرِّ جهنَّمَ وسمومها، وبردُها يذكِّر بزَمهَرِيرِها، قال تعالى في صِفَة الجنّة: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13]، فنفى عنهم شِدّةَ الحرّ والبردِ، قال قتادة رحمه الله: "عَلِم الله أنّ شدَّةَ الحر تؤذي، وشدّة البرد تؤذ، فوقاه أذاهما جميعًا".
ويذكِّرُنا بهذه الحقيقةِ فيقول كما جَاءَ في الصحيحَين من حديث أبي هريرة عنِ النبيِّ أنه قال: ((اشتَكَت النار إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أكل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفَسَين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فأشَدُّ ما تجِدون من الحرّ من سموم جهنم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرِير جهنّم))، وروى الجماعة أيضًا عن النبيِّ أنه قال: ((إذا اشتدَّ الحرُّ فأبرِدوا بالصلاةِ ـ أي: صلاةِ الظهر ـ فإنَّ شدّةَ الحرِّ من فَيح جهنّم)).
وهذا التذكُّرُ ـ أيّها المؤمنون ـ يسوقُ أولي الأبصارِ إلى الطاعةِ والإقبال إلى الله جلّ وعلا، ويَحدُو بأهلِ التعقّل للإعداد بالأعمَال الصالحة؛ ولهذا كان السّلَف يذكُرون النارَ بدخول الحمّام، وهو مكانٌ يُجمع فيه ماءٌ حارّ على كيفيّة معيّنَة، فيحدِث لهم هذا التذكّرُ عبادةً وتطوُّعًا وتقرُّبًا للمَولى جلّ وعلا، قال أبو هريرةَ رضي الله عنه: (نِعمَ البيتُ الحمام؛ يدخله المؤمنُ فيزِيل به الدَّرَن ويستعِيذ بالله من النار)، ودَخَل ابن وَهبٍ الحمّامَ فسمِع تاليًا يتلو: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر: 47] فغُشِي عليه، وكان بعضُ السّلَف إذا أصابه كربُ الحرِّ قال: "يا بَرُّ يا رحيم، مُنَّ علينا وقِنَا عذابَ السموم"، وصَبَّ بعضُ الصّالحين على رأسِه ماءً، فوَجَدَه شَديدَ الحرِّ فبَكى وقال: ذكَرتُ قولَه جلّ وعلا: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ [الحج: 19].
فهَكَذا هم، يَرَون أنَّ كلَّ ما في الدنيا يَدلُّ على صانِعِه ويُذكِّر به ويَدلُّ على عظمَتِه وسَعةِ صِفاتِه، فما فيها من نعيمٍ وراحةٍ يدلّ على كَرَم خالقِه وفضلِه وإحسانه وجودِه ولُطفِه، وما فيها مِن نِقمةٍ وشِدّة وعَذابٍ يَدلّ على شِدّة بأسِه عَزّ شَأنُه وعَظيمِ بَطشِه وقهرهِ وانتِقامِه، قال الحسن في كلامٍ له طويل: "كانوا ـ يَعني الصحابةَ رضي الله عنهم ـ يقولون: الحمد لله الرفيق الذي إذا شاءَ جاءَ بِبردٍ يقَرقِفُ الناسَ ـ أي: يَرعَد الناسُ من البرد ـ، وإذا شاء ذهَبَ بذلك وجاءَ بحرٍّ يأخذ بأنفاس الناس؛ ليعلمَ الناسُ أنَّ لهذا الخَلقِ ربًّا هو يحادِثُه بما تَرَونَ من الآيات، كذلك إذا شاءَ ذهَب بهذه الدّنيا وجاء بِالآخرةِ.
إخوةَ الإِسلام، في الزّمَان وتقلُّبه دلائلُ، وفي تحوُّلِه بصائرُ، قال ابنُ رجب رحمه الله: "واختلافُ أحوالِ الدّنيا من حرٍّ وبَرد وليلٍ ونهار وغَيرِ ذَلك يَدلّ على انقِضائِها وزَوالها" انتهى. فالسَّعيدُ من اغتَنَمها فيما يُقرِّبه مِن خالِقِه ويباعِدُه مِن سَخَط إلهِهِ وربِّه، قال أحد العُبّاد الزّهَّاد وَهوَ يَتَحدَّث عن تفَكُّر المؤمنين في تقلُّب اللّيل والنهار ومجيءِ الشِّتاء والصيفِ: "فوالله، ما زالَ المؤمِنون يتفكّرون فيما خلق لهم ربُّهم حتى أيقَنَت قلوبهم حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيتِه، وما رأى العارفون شيئًا من الدنيا إلاّ تذكّروا بِه مَا وَعَد الله به مِن جِنسه في الآخرة". كان عمر يقول: (أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد)، وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان: 24].
إِخوةَ الإسلامِ، ومِن مَواقفِ العِبرِ في زَمنِ الحرِّ تذكُّر حرِّ الشَّمس في الموقِفِ العظيم، فإنَّ الشمسَ تَدنو من رؤوسِ العِباد يومَ القيامَةِ ويُزاد في حَرِّها، قال قتادَة وقد ذَكَر شَرابَ أهل الجنّة: "فهَل لكم بهذا يَدان، أم لَكم عليه صَبرٌ؟! طاعةُ الله أهونُ عليكم يا قوم، فأطيعوا اللهَ ورسوله". وصدَق القائل:
نسيتَ لظَى عند ارتِكـابِك للهوى وأنت توَقَّـى حرَّ شَمس الْهواجر
معاشرَ المؤمنين، في سِيَر السَّلَفِ عندَ تقلُّب الأزمانِ وفي مسَارَعتِهم إلى الخيراتِ سائرَ الأزمان قُدوةٌ لمن تدبَّر واعتبرَ، روي أنّ أبا بكرٍ كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء، ووَصّى عمرُ رضي الله عنه ابنَه عبدَ الله فقال: (عليك بخصال الإيمان)، وسمَّى منها الصومَ في شدّةِ الحرِّ في الصيفِ، وكان معاذُ بن جبل يَتَأسَّف عِند موتِه على ما يَفوتُه مِن ظمَأ الهواجِرِ وقِيام لَيلِ الشِّتاء، وكان أَبو الدَّرداء يقول: (صُومُوا يومًا شَديدًا حرُّه لحرِّ يوم النّشور، وصَلُّوا ركعَتَين في ظُلمةِ اللّيل لظُلمةِ القُبور).
وَفَّقَ الله الجميعَ للأعمَالِ الصَّالحة والأقوالِ الطيِّبة في سَائرِ الأزمانِ والأوقات.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلّ ذَنبٍ، فاستَغفِروه إنّه هوَ الغفورُ الرّحيم.
|