أما بعد: أيها الناس، اتقوا ربكم واعلموا ما لله من الحكمة البالغة في تعاقب الشهور والأعوام وتوالي الليالي والأيام، فإن الله جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ومراحل للآجال يعمرها الناس بما يعملون من خير وشر حتى ينتهي إلى آخر أجلهم، ومن رحمته بعباده أن جعل لهم ليلا ونهارا وجعل لكل منهما آيتين آية النهار وهي الشمس وآية الليل وهي القمر، كل نهار يتجدد بمنزلة الحياة الجديدة يستجد فيه العبد قوته ويستقبل عمله، ولذلك سمى الله النوم بالليل وفاة واليقظة بالنهار بعثا فقال تعالى: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون .
ومن رحمته بعباده أن جعل الشمس والقمر حسبانا ففي الشمس معرفة الفصول وفي القمر حسبان الشهور وجعل الله السنة اثنى عشر شهرا قال الله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .
والأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان، وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنيا على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام، وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رؤي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت.
ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي وقال بعضهم: يبدأ من بعثته وقال بعضهم: يبدأ من هجرته وقال بعضهم: يبدأ من وفاته، ولكنه رجّح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين، وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون، فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان.
ثم أن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤن السنة فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة وقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجتهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم أنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.
عباد الله: إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودا وكيانا مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها وفي كل ما ينبغي أن تميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعا ولا يدفع عنها ضررا، وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس، والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة. هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [يس:37-40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . |