أما بعد: لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه واصطفاه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وأودع في النفس البشرية خلالاً وصفاتٍ وسجايا وطبائع، ومن تلك السجايا والصفات التي فُطرت عليها النفس البشرية طبيعة التقصير والخطأ والانحراف والهوى، فالمعصية طبعٌ جبلّي وخلق بشري، متى ما كان الوقوع فيها بدافع الشهوة والشبهة دون محبةٍ أو رغبة مع كره القلب لها ونفور النفس منها.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى واتّصافه بصفات المغفرة والرحمة أن يقع العباد في الذنوب والآثام ثم يرجعون إلى الله مقبلين تائبين، فيغفر لهم ويتجاوز عنهم بمنّه وكرمه، ولو شاء الله لآمن من في الأرض أجمعين ولهدى الناس كلهم، لكن حكمته اقتضت أن يملأ الجنة والنار من خلقه.
ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضـائع
إن عُذّبوا فبعدله أو نُعّموا فبفضله وهو الكريم الواسع
عباد الله، من ذا الذي لم تصدر منه زلّة؟! ومن الذي لم يقع منه هفوة؟! ومن لم يقع في معصية؟! وقد قال المصطفى : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) رواه مسلم في صحيحه، وروى الترمذي وابن ماجة أنه قال: ((كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)). فأيّ نفس ـ يا عباد الله ـ غير نفوس الأنبياء المعصومة ترتقي إلى درجةٍ ومنزلةٍ لا تدركها كبوة ولا تغلبها شهوة؟! ولكن المؤمن الصادق في إيمانه مع ذلك كلّه يدرك خطورة المعصية وشناعتها وأنها جرأةٌ على مولاه، فإذا وقع فيها تحت ضعف بشريّ واقعها مواقَعةَ ذليل خائف يتمنّى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلّص من شؤم المعصية.
أيها المسلمون، إنّ الواقعين في المعاصي أحد رجلين:
إما رجلٌ يقع في المعصية حبًّا لها وشغفًا بها، تتحكّم المعصية في قلبه وتسطو على تفكيره، حتى يسعى بكل جوارحه للوقوع فيها، وقد يبذل مالاً أو جاهًا حتى يقع فيها، فإذا حال بينه وبين الوقوع فيها حائل أخذته الحسرات وعصره الندم على أنه لم يتمكن من فعلها، كل ذلك دون رادعٍ من دين أو خلق أو ضمير، فلا يفكر بالتوبة ولا يقيم لها وزنًا، فهذا وأمثاله لا تزال خطواته تقوده من معصية إلى أخرى ومن صغيرة إلى كبيرة حتى تكبّه على وجهه في النار عياذًا بالله. هذا هو الرجل الأول.
وأما الآخر فهو يبغض المعصية ويُقبل على الطاعة، لكنه تأخذه في لحظةٍ من اللحظات حالة ضعف بشري، فيواقع المعصية أيًا كانت، وما إن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندمًا وحسرةً وخوفًا ووجلاً من الله تعالى، فيحتقر نفسه ويمقتها، ثم يتجه إلى الله طارقًا بابه راجيًا عفوه وغفرانه، فهذا وأمثاله ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135]. ولقد صوّر ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن مع المعصية تصويرًا بليغًا دقيقًا فقال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به بيده فطار). قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: "وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلّ خوفه من الله واستهان بالمعصية".
أيها المسلمون، المعاصي سببُ كل عناء وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، فإن ما أصاب الناس من ضُرّ وضيق في كل مجال من المجالات فرديًا كان أو جماعيًا إنما بسبب معاصيهم وإهمالهم لأوامر الله عز وجل ونسيانهم شريعته، وصدق الله سبحانه إذ يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وكتاب الله تعالى خير شاهد، فقد عمّ قومَ نوح الغرق، وأهلكت عادًا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
أيها المسلمون، وحين طغت على كثير من الناس النظرة المادية فضعف عندهم ربط الأسباب بمسبباتها وغفلوا عن إدراك سنن الله الكونية وآياته الظاهرة ـ يؤازر ذلك ويساعده تتابع الفتن والشهوات على الناس ـ صُدّوا عن السبيل ووقعوا في المعاصي دون أدنى رقيب أو محاسبة.
نعم عباد الله، لقد انتشرت الفواحش، وعمّت المنكرات، واستبيحت المحرمات، ووقع الناس في الذنوب والموبقات لمّا غاب عنهم الرقيب وضعف في نفوسهم الإيمان، فهانوا على الله فلم يبال بهم في أيّ أوديته هلكوا. ذُكر للحسن البصري رحمه الله أن قومًا وقعوا في المعاصي فقال: "هانوا على الله فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". نعم أيها الإخوة، لقد وقع الناس في المعاصي والذنوب لمّا استحكمت الغفلة من القلوب، وران حب الدنيا على النفوس، فأمنت مكر الله.
عباد الله، المعاصي مزيلة للنعم جالبة للنقم مؤدية إلى الهلاك والدمار، فقد روى ابن ماجة وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
أيها المسلمون، إن أضرار المعاصي وشؤم الذنوب عظيمٌ وخطير، فهي موجبةٌ للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب، وتورث الهوان، وتوجب اللعنة من الله ومن رسوله، تزيل النعم، وتجلب النقم، وتلقي الرعب والخوف في القلوب، تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، توجب القطيعة، وتمحق البركة، ما لم يتب العبد منها ويرجع إلى الله تعالى خائفًا وجلاً تائبًا طائعًا، قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يـورث الذلّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسـك عصيانُها
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدّت السّنة وأمسك المطر تقول: هذا بشؤم معصية بني آدم".
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن للمعصية ظلمة يجدها العاصي في قلبه لا يبددها ويجلوها إلا التوبة إلى الله تعالى والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورًا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضًا في قلوب الخلق"، قال : ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه الإمام أحمد. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي".
إن للمعاصي ـ أيها المسلمون ـ من الآثار القبيحة المذمومة المضِرّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمها إلا الله؛ من حرمان للرزق ووحشة يجدها العاصي بينه وبين الناس وبينه وبين الله، ومِن تعسّر الأمور عليه وحرمان التوفيق، ومن الظلمة في القلب وحرمان الطاعة ونقص في العمر ومحق للبركة، وأعز من ذلك كله نقص العلم وحرمانه، قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيـع سوء حفظـي فأرشدني إلى تـرك الْمعاصـي
وقـال: اعلـم بـأن العلم نـور ونـور الله لا يؤتـاه عاصـي
وكذا هوان العبد على ربه وسقوطه من عينيه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18]. ووقوع العاصي في الذل والمهانة لأنّ العزّ كله في طاعة الله، قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إنّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 96-99].
بارك الله لي في القرآن العظيم...
|