أما بعد: أيها المسلمون، إن من صفات خالقكم عز وجل أنه حكيم عليم رحيم سبحانه، ومن حكمته الكاملة ورحمته بخلقه وعلمه بطبيعة عباده أنه حرّم عليهم أمورًا ووصاهم أن لا يقترفوها، وحدّ لهم حدودًا أمرهم أن لا يتعدوها وأن لا يتجاوزوها، وجعل تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية متوقفا على ذلك، فبين في كتابه في أكثر من موضع الأمور التي حرمها على عباده وحذرهم منها، يقول سبحانه: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]، ويقول عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، إلى غير ذلك من محرمات وموبقات أمرنا الباري عز وجل أن نبتعد عنها.
هذه المحرمات التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها لا تقوم سعادة المسلم ولن ينال الطمأنينة والهناء إلا إذا ابتعد عنها. إن بلوغ المسلم لما يرومه وما يبتغيه من فضل الله الواسع هو في اجتناب واتقاء الحرام، ومعظم ما يصيب المسلمين من ضنك وضيق وهمٍ وغمٍ وتعسّر أمور هو بسبب ما اقترفوا من حرام تلبست به ألسنتهم وأعينهم وبطونهم وفروجهم وكافة جوارحهم، قامت هذه الجوراح بفعل الحرام فكان أثر ذلك أن عشّش الران على القلوب وغاب عنها الإيمان والسكينة.
لا بد أن نتّقي المحارم ونبتعد عنها إذا أردنا الوصول إلى ما نصبو إليه في الدنيا والآخرة، وإذا أردنا أيضًا أن نتلذّذ بالعبادة وأن تكون القربات قرة عين لنا، فأعظم ما تكون لذة العبادة وشدّة المجاهدة في اتقاء الحرام؛ لأنه أينما وُجد الحرام نصب إبليس ـ عليه لعنة الله ـ شِباكه ليوقع بالمسلم فيما حرم الله، فإذا تفادى المسلم هذا الحرام وجاهد نفسه وهواه في سبيل مرضاة الله أحسّ براحة عميقة؛ لأنه أرضى مولاه وانتصر في هذه المواجهة الصعبة.
هكذا هو الأمر، وهكذا قضى الله سبحانه، فهو الذي حرّم الحرام وأحل الحلال وحدّ الحدود، فإذا وقف العباد عند هذه المعالم والتنبيهات نالوا الرضا والسعادة، وإذا ولغوا في الحرام وخاضوا فيه خيّمت عليهم التعاسة والمحن، يقول : ((ضرب الله تعالى مثلاً صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستورُ مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم)) أخرجه أحمد عن النواس.
والآن لنسأل أنفسنا إخوة الإيمان: هل حفظنا جوارحنا عن الحرام؟ هل اتقينا الحرام في حياتنا وابتعدنا عنه كما أمرنا مولانا عز وجل، أم أننا نرتكب المحرمات يوميًا ونقترفها دون تفكير ولا وجل؟ بل إن من الناس من يضع التبريرات الواهية والمعاذير الكاذبة ليسوّغ لنفسه أكل الحرام وفعل الموبقات.
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن بطوننا بطلب الحلال والبعد عن أي معاملة يشوبها الحرام، فهل قمنا بهذا؟ هل سأل المسلم نفسه عن ماله؟ هل نقّاه وصفاه من الحرام؟ هل سأل نفسه عن اللقمة التي يأكلها هو وأهله: هل هي مما أحله الله له أم أن المهمّ عنده أن يأتي بالمال وبالطعام وبأيّ طريقة كانت؟ يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل ، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، ويقول : ((وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطاه المسكين واليتيم وابن السبيل، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة)) أخرجه النسائي عن أبي سعيد.
هذا هو الموقف الصحيح من المال ومن الكسب، ولقد حذرنا من وقت يكون فيه المال فتنة يجري الناس خلفها دون وعي ولا شعور، حيث يقول كما عند النسائي من حديث أبي هريرة: ((يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام)).
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن أعيننا، فهل حفظنا هذه العين التي هي باب من أبواب القلب؟ إن أدخلت عليه خيرًا انتعش وازداد إيمانا، وإن أدخلت عليه شرًا اسودّ وانتكس، هل حفظنا هذه العين من مشاهدة ما حرم الله سبحانه؟ هل غضضنا هذا البصر عن مناظر أمرنا الله سبحانه أن نجتنبها أم أننا أرسلنا الطرف وراء كل فتّان من المناظر ومهلكٍ من المشاهد؟ يقول تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وعن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات، فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) متفق عليه، ويقول ناصحا ابن عمِّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)) أخرجه أبو داود عن بريدة.
إننا مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن ألسنتنا؛ وذلك بحفظها عن الكلام البذيء وعن الخوض في أعراض المسلمين وعن تجريح غيرنا وعن القول على الله بغير علم، فهل قمنا بهذا أم أننا فرطنا فيه ناسين أن ديننا يحذرنا من التمادي في إهمال ألسنتنا حتى لا تودي بنا إلى الهلاك؟ يقول : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) أخرجه البخاري، ويقول أيضا كما في حديث معاذ: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) الحديث أخرجه الترمذي.
إننا أيها ـ الإخوة مأمورون ـ باتقاء الحرام وإبعاده عن آذاننا وأسماعنا، فلا ينبغي أن نسمع الخنا والفحش وما نهى الله عنه من أمور، فهل نزّهنا أسماعنا عن هذا؟ وهل ابتعدنا عن مواطن الرذيلة ومجامع اللغو والفحش؟ قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]، ويقول : ((كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
إننا ـ أيها المسلمون ـ مأمورون باتقاء الحرام وإبعاده عن فروجنا، فلا ينبغي لنا أن نستعمل فروجنا إلا فيما أحله الله لنا من أزواج، فهل قمنا بهذا أم أن الفاحشة شاعت والزنا استشرى وولغ المسلمون في الرذيلة دون وازع من دين ولا خلق؟ رغم أن ربهم يحذرهم من ذلك بقوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32]، ورسوله يبين لهم أن الزنا شرٌ عظيم، فيقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عباس: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)). فهل أدركنا أن الفواحش والعري والفسق الذي انتشر بيننا يحول بيننا وبين الحياة الطيبة والخاتمة السعيدة؟!
هذه ـ أيها المسلمون ـ وجوه من الحرام الذي ينتشر بيننا، والذي ينبغي أن نتقيه ونتجنبه؛ لأن الله سبحانه أمرنا بذلك، ولأن الأمور لن تستقيم والنفوس لن تهنأ إلا بذلك.
بعد عرضنا لهذه الأوجه من المحرمات يرد سؤال إجابته هي الشفاء لحيرتنا وذهولنا واضطرابنا، هذا السؤال: هل تجنبنا هذه المحرمات التي ترتكبها أعيننا وأسماعنا وبطوننا وفروجنا وألسنتنا أم لا؟ إن كنا بذلنا ما نستطيع في تجنبها فهذا هو الأمر المحمود الذي يريده الله عز وجل منا، والذي سيحقق لنا ما نصبو إليه من راحة واطمئنان، أما إذا كنا نخوض في الحرام بكافة جوارحنا وحواسنا ونقترفه في اليوم مرات ومرات فقد سددنا على أنفسنا طريق السكينة والاطمئنان، وأوصدنا بأعمالنا أبواب الرحمات والبركات التي يأتينا منها الروح والريحان.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا جوارحكم في ذات الله، وعبّدوها لله، وإياكم والاستهانة بأي ذنب، فإن المرء لا يدري ما الذنب الذي تكون به هلكته، يقول : ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) الحديث أخرجه أحمد.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه مرضاته، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
|