أما بعد: فقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن أمرٍ عظيم هو ظلم الأبناء للوالدين، وهو جريمة عظيمة وعقوق من الأبناء في حق الآباء والأمهات. ونتكلم اليوم عن ظلم الوالدين في حق الأبناء؛ لأنه كما أن للوالدين حقوقًا إذا فرط فيها الابن كان ظالما في حق والديه فإن للأولاد حقوقًا إذا فرط فيها الوالدان كانا ظالمين في حق الولد. نتكلم عن هذا الأمر في هذه الخطبة مركزين على ظلم الآباء في التنشئة والتربية، وهي أخطر أنواع ظلم الآباء للأبناء؛ لأن الأمور المترتبة على سوء التربية أمور عظيمة، ونتكلم عن جوانب أخرى من ظلم الوالدين للولد في الخطبة القادمة بإذن الله.
إخوة الإيمان، ظلم الوالدين للولد يبدأ من نشأته، فلا بد للوالدين إذا أرادا أن لا يكونا ظالمين في حق ولدهما أن يقوما بما يمليه عليهما دينهما، وأن يتقيا الله سبحانه في هذا الولد الذي رزقهما الله؛ لأن الولد يولد على الفطرة فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها، والذي يؤثّر على هذه الفطرة ويساهم في إفسادها والداه ثم المجتمع، يقول كما في صحيح الجامع من حديث الأسود بن سريع: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))، فالولد في صغره كقطعة الطين اللين سهلة التشكيل، يتجه إلى الخير إن وجهته إليه، ولكن الآباء والأمهات يضيعون هذا الواجب نحو الولد، فلا يوجهونه ولا يعلمونه، فيظلمونه ويظلمون أنفسهم، وظلم الأبناء للآباء الذي تكلمنا عنه في الجمعة الماضية أول أسبابه الوالدان، فما وُجِد عاقٌ ظالم لوالديه في أكثر الأحوال إلا بسوء تربيةٍ وإهمال وسوء تصرف من الوالدين.
أول أشكال ظلم الآباء للأبناء القسوة على الأبناء في مرحلة الطفولة، فالطفل الصغير يحتاج إلى رعاية وحنان وعطف ومداعبة؛ لكن الآباء والأمهات يضيّعون هذا الأمر ويهملون هذه الجوانب المهمة للطفل، فينشأ الطفل معقدا أو عصبيّا، وإذا كبر نشأ محبًا للشارع كارهًا للبيت؛ لأنه لا يجد فيه راحته ولا الاهتمام به.
إنّ من الآباء من يعتبر مداعبته لولده أو تقبيله له عارًا أو جريمة، فهو لا يعامل أولاده مهما صغرت سنهم إلا بالقسوة والغلظة، وهذه أول أسباب نشوء العقوق في أنفسهم. إن مداعبة الابن ليست عارًا، وليست منقصة، وليست منافية للرجولة، وها هو رسول الله يعلمنا هذا الأمر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)) أخرجه الشيخان.
حقًّا، إن من لا يرحم لا يُرحم، من لا يرحم غيره لا يرحمه الله، كما أن من لا يرحم أبناءه سوف لن يرحمه الأبناء عند كبره.
بل إن رسول الله يرحم هؤلاء الأطفال حتى وهو في أهمّ أمر يقوم به وهو الصلاة، فقد يؤخر سجوده وهو يصلي بالناس مراعاةً للحسن بن علي رضي الله عنهما الذي صعد على ظهره، ولننظر كيف كان الحسن في كبره بسبب هذه المعاملة الرحيمة بينما نحن لا نتحمل بكاء طفل في المسجد ونقيم الدنيا ولا نقعدها، فينشأ أطفالنا بعُقَد ونشوز فالله المستعان.
وبعض الآباء لا يقف ظلمه عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى حدٍ خطير، وهو أنه يتعامل مع أبنائه منذ صغرهم بالضرب حتى لمن عمره أربع أو خمس سنوات، ويصفعه على وجهه؛ مما يسبب في ضياع شخصية الطفل وفقده لاتزانه، ومما يخلف في ذاكرته شيئًا من الحقد على والده أو أمه، بينما يعلمنا ديننا الحنيف أن أهم واجب في الحياة وأهم شيء خلق الله من أجله الإنسان العبادة، وعلى رأسها الصلاة، لا يضرب من أجلها الإنسان حتى يبلغ العاشرة، يقول : ((واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا))، فأي جريمة ترتكب يوميًا في حق الأطفال؟! ثم تتعجب بعد ذلك من العقوق، ونتعجب من جنوح الأحداث، والواقع يقول بأننا نحن من أسهمنا في هذا العقوق وهذا الجنوح. وكلامنا هذا لا يعني الدعوة إلى تدليل الأطفال والمبالغة في الاهتمام بهم وتلبية كل مطالبهم، بل التوسط هو السبيل، لا إفراط ولا تفريط، ورحمة الصغير أمر شدد عليه ديننا الحنيف، يقول في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ابن عمرو: ((من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
ومن ظلم الآباء للأبناء عدم تربيتهم على الأخلاق الحسنة والسجايا الكريمة، بل يتركونهم ينشؤون دون توجيه أو رعاية، فيكتسبون أخلاقًا وسجايا ذميمة، والله أمر بتوجيه الأهل إلى الخير والبر فقال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، وأثنى على الذين يسعون في هذا السبيل فقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، وبيّن لنا أن الأنبياء عليهم السلام وهم قدوتنا كانوا يرغبون في الذرية الصالحة، وليس مجرد الذرية، يقول سبحانه على لسان إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، ويقول على لسان زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38].
وأول ما يوجّه الوالدان إليه الولد الإيمان بالله والبعد عن الشرك وغيره مما ينافي العقيدة الصحيحة؛ لأن الإنسان إذا آمن بوجود الله واستشعر رقابته صلحت أموره كلها، وها هو العبد الصالح لقمان يوجه ولده هذه التوجيهات الإيمانية، يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، ويقول: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُر ْبِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 17-19].
فلا بد للإنسان حتى لا يكون ظالمًا في حق ولده أن يوجهه ويرشده إلى الخير وإلى الإيمان والإحسان، وأن يبعده عن الشرك والفجور، لا بد أن يعلمه القرآن، ويبين له حقوق الله عليه وحقوق الناس؛ لينشأ نشأة كريمة، أما إذا ضيع هذا فقد أساء إلى ولده أيما إساءة، يقول ابن القيم في كتاب تحفة المودود: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم" انتهى.
فلا بد إذًا من التوجيه والنصح، وهذا التوجيه للأبناء أمرنا به رسول الله ، فهو القائل كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع))، فإذا فرطت في تعليمهم الصلاة صغارًا فلا تتعجب من تضييعهم لها كبارا، وإذا ضيعوا الصلاة فهل ترجو الخير من إنسان عديم الصلة بالله سبحانه؟! ويقول أيضا لعمر بن أبي سلمة وهو يوجهه في صغره أثناء الطعام: ((يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) أخرجه الشيخان، فأين نحن من مثل هذه التعليمات التي إذا ضاعت في الصغر صعب تحقيقها في الكبر؟!
إن التفريط في هذه التعليمات والتوجيهات وغيرها من أعظم الظلم للأبناء، حيث ينشؤون في جاهلية جهلاء، في بيوت لا تعرف لله حقا ولا مكان للأخلاق فيها، فيسهل عليهم سلوك سبيل الفساد والرذيلة، ويكون سوء التربية من أهم الأسباب في انتهاجهم لهذه السبيل، ورسول الله يبين لنا هذه المسؤولية حتى لا نتهاون فيها، فيقول في الحديث الذي رواه النسائي عن أنس: ((إن الله تعالى سائلٌ كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))، فلا يظنن ظان أن أمر الاهتمام بالأهل والأبناء وتوجيههم أمر اختياري، لا بل هو مسؤولية يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
وليت الآباء يقفون عند هذا الحد من التفريط في توجيه الأبناء وتربيتهم، بل إنهم يقومون بأسوأ من هذا، وهو تعليم أبنائهم الأخلاق السيئة وتربيتهم على الكذب والوقاحة، فنجد الأب والأم يعلم ابنه كيف يقول لغيره: يا حمار، وكيف يبصق على الناس، وكيف يضرب الصغار، كما أنه يعلمه الكذب، فإذا جاء من يبحث عن الأب أمر ابنه بأن يذهب إليه ويقول له: أبي غير موجود وهو موجود، بل ويكذب الأب على الابن أكثر من مرة حتى ينشأ على عدم تصديق أبيه وعدم الثقة به، وهذا الأمر يفعله الكثير من الآباء والأمهات وللأسف، من ذلك أننا إذا أردنا أن نمسك بطفل فإننا نقول له: تعال خذ، متظاهرين بأننا سنعطيه شيئا، فإذا جاء أمسكنا به ولم نعطه شيئا، فإذا كررنا هذا مرارا تخلَّق الطفل بأخلاق ذميمة نحن السبب فيها، من هذه الأخلاق عدم الطاعة إذا ناديناه وفقد ثقته فينا وتكذيبنا لأنه جرب علينا الكذب، وهو أيضا درس عملي في الكذب يتعلم منه كيف يكذب، وهذه معاملة نهى عنها رسول الله ، فعن عَبْدِ الله بن عَامِرٍ أَنّهُ قالَ: دَعَتْنِي أُمّي يَوْمًا وَرَسُولُ الله قاعِدٌ في بَيْتِنا، فقالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقالَ لَهَا رَسُولُ الله : ((وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟)) قالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فقالَ لَهَا رَسُولُ الله : ((أُمَا إِنّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكَ كَذِبَةٌ)) أخرجه أبو داود.
فلا تستهزئ بالطفل ـ يا عبد الله ـ وتقول: هذا طفل لا يفقه شيئا، بل إن الكذب كذب على الصغير أو على الكبير، بل هو مع الصغير أخطر؛ لأنه في طور التعليم، يحفظ كل ما يلقى إليه.
كل هذا وغيره ـ عباد الله ـ ظلم من الآباء للأبناء، يترتب عليه في أكثر الأحيان خروج نشءٍ لا يعرفون حقا لله ولا لعباد الله، يعقون آباءهم، ويظلمون الناس.
فاتقوا الله في أبنائكم عباد الله، وكونوا عونًا لهم في معرفة حق الله وحقكم عليهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|